الحاجة إلى دولةٍ مُستبدة

4708434_max

ليس الاستبداد دائماً ذات طابعٍ سلبي رغم كارثيته، لكن وجوده في أحيانٍ مُعينة محبّب بل ومُحتم. بعد الأحداث التي شهدتها دول الربيع العربي برَزت الحاجة المُلحة لاستبدادٍ عادل لوضع حد لوفرة الحرية الطارئة في تلك البلدان، تلك الجُرعة المُفرطة من الحرية التي لم يألفها الشّعوب تحولَت إلى فوضى عارمة.

الثورة أداة للوصول إلى هدف “الدولة” والقانون وليست الهدف بحد ذاته، وبالتالي استمرار هذه الأداة يقود إلى الدوران في حلقة مُفرغة. وهذا ما حصل بالفعل في هذه البلدان. فقد تحوّلت الثورة إلى حدث يومي كجزءٍ لا يتجزأ من حياة المجتمع إلى أن صارت غوغائية.

الثورة هي الوصول إلى السلطة بطريقة غير شرعية عبر الفوضى. عندما تستمر هذه الفوضى، من المفترض أن يأتي على سُدة الحكم أشخاص كُثر في وقت قياسي وبالتالي يظل الاستقرار مُتزعزع بقدر تزعزُع المتعاقبين على السلطة.

كان من المفترض أن يعقُب الربيع العربي دولٌ مُستبدة. أقول دولة مستبدة وليس سُلطة مُستبدة. فاستبداد الدولة عدالة ومساواه وحزم، أما استبداد السلطة فئوي أو طائفي أو جهوي. استبداد السلطة كارثي ومُمزق للنسيج الاجتماعي. الدولة كيانٌ مستمر، بينما السلطة عبارة عن شخوص انتهازيون يجوّرون مقدرات الدولة لصالح الفرد أو الحزب أو الفئة.

في البلدان التي شهدت احتجاجات ما سمي بالربيع العربي، لم يراد للدولة أن تحضر، ثمة من لم يرقه ذلك. وهذا ما يفسره التخبط والتعثر الذي أصابها، وانهيار أي سلطة تصل إلى سدة الحكم وصعود أخرى. كل المكونات المُتعاقبة على السلطة تستخدم تقريبا ذات النهج الفوضوي الثوري، وهذا ما غيّب الدولة تحديداً. ولا ننسى كذلك البعد الإقليمي والدولي في تأثيره على المشهد بشكل مباشر أو عن طريق دعم فصيلٍ ما للقيام بالمهمة.

إذن لا تزال الثورة هي الوسيلة والغاية في آنٍ معاً، لذا من المفترض أن تستمر الفوضى إلى أجل غير مُسمى، وسيرافقها غيابُ الدولة. للأسف هذه الطريقة الفوضوية باستمراريتها خلّفت جماعة دينية مُتطرفة في اليمن على سبيل المثال وليس الحصر. ويبدو أنها لن تستقر عليها طالما والوسيلة لا تزالُ تعمل، خصوصاً أن هذه السلطة التي أتت على حين غفلةٍ من التاريخ مسكونةٌ بالطائفية وستُعيد الوطن إلى حِقب سحيقة من الظلاميّة والتخلّف.

إبان ثورة فبراير في اليمن والتي أفضت إلى اتفاقٍ لتسليم السلطة عبر المبادرة الخليجية، أتذكّر عندما تمّ تعيين محافظاً لمدينة تعز عقب تسليم السلطة، كان المواطنون باختلاف آرائهم السّياسة تواقين لحضور الدولة. أتذكر المواطنين وهم يصرخون مخاطبين المحافظ الشاب الذي ينتمي لعائلة تجارية مرموقة ومشهودٌ لها بالنزاهة والكفاءة. كان الناس يطالبون، بعد الفوضى التي شهدتها المدينة إبان الثورة، كانوا يطالبون بأن تضرب السلطة المحلية بيدٍ من حديد؛ يطالبون ببسط الأمن ونفوذ الدولة. كما قلنا، استبداد الدولة عادل ومنصف كذلك. دولة قمعية عادلة خير من دولة رخوة وخائرة.

لقد خافت السلطات الجديدة من تقييد الحريات خوفاً على سلطتها من الشارع المتحوّل جذرياً، وتركت وفرة كبيرة من الحرية. تلك الحرية التي جعلت الفوضى تستمر لتصبّ أخيراً في مخاوفها، بل وتسقطها من الحكم.

كان من الأحرى اعتبار الربيع العربي طفرةً خاصة، بل ظاهرةً طارئة نظراً للحالة المُزرية التي وصلت إليها تلك البلدان من جهة، ونظراً للفترة المُؤبدة التي قضاها حكامها الكُهول. كان ينبغي التأسيس، عقب تساقط أولئك العجزة، لدولٍ مُستبدة تنهض بالمواطن والوطن، وتحكم القبضة على الفوضى المُفترضة. عندما توجدُ تلك الدولة المتينة، عندها سيلجأُ المواطنون إلى اختيار من يمثلهم بطرق راقية وشرعية تحت ظلها.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *