من وحي ساحة الحريّة, ومحرقة الحقد!

h84
في ساحاتِ وميادينِ الحُرية، خرَج الشبابُ بمختلف انتماءاتهم وتوجّهاتهم يبحثون عن وطنِ يوشُك أن ينقرض. وطنٌ ينحدرُ ليصبح في قبضةِ عصابةٍ عائليّة مناطقيّة تُسخّر خيراته لصالحها وزمرتها. طفحَ الكيلُ بأولئك الشباب الذين, رغم كل ذلك, لا يزالون يحتفظونَ بإرادتهم المطلقة, إرادةٌ يلينُ لها الحديد. رأوا دول العالم والجوار كيف كانت وأين صارت، ولا يزالُ وطنُهم يبارح بؤرة التخلّف والانحطاط.. ومع هذا يتشدّق الحكّام بالمنجزات الوهمية التي لا تنطلي إلا على أولئك المسلوبي الإرادة, الذين دأبوا على الارتزاق بتسبيحهم بحمد الحاكم. لم يعرف هؤلاء الشباب حبّ الوطن إلا في تلك الساحات، ولم يشعروا برمزية علَمهم الوطني إلا هناك؛ بعد أن اختُزل معنى الوطنيّة في اسم الطاغية. 

في ساحة الحرية، يفزُّ المواطنُ البسيط عند سماعِه النشيد الوطني، فيقفُ مردّدا أغنيتَهُ الخالدة “لن ترى الدّنيا على أرضي وصيّا”، البعض لا يستطيع كتم سيْل العَبَرات. يقولُ لي أحدُ دكاترة الجامعة المُنتمي للحزب الحاكم سابقاً، والدموع تبلّل خدّة وهو يردّد نشيد الوطن ويدُه على خافقِه، يقول: “كم أحسدكم أيها الشّباب، كم كُنا حمقى نسبّح باسم الحاكم ونسينا الوطن وقدُسيّته.. أنتم أجملُ منّا بكثير؛ علّمتمونا معنى الوطنية.. كم أنا سعيدٌ جداً بوجودي بينكم أعلنُ التوبةَ بين يدي الوطن.. أحسُّ أني تغيرتُ 180 درجة.. الحمد لله.” 

أكثر ما أغاضَ الطّاغية تلك الجُرعات الوطنية التي زخرت بها السّاحات، لا أسماء ولا ألقاب تعلوا على راية الوطن. لم يستطع تحمّل ذلك، فأرسلَ عليها مرتزقَتَه من المُحبّبين والعرابيد الذين لا يؤمنونَ بقدسيّة الدماء, والنفس البشريّة. أحرَقوا ساحةَ الحرية بدمٍ باردٍ في يومٍ لا أعادَ الله شمسَه على الوطن. 

لم أشعُر بخوفِ كتلكَ اللّيلة, رُغمَ مُتابعتي له مباشرةً على إحدى القنوات, كُنت يومها في القريّة لتلقّي العزاء في وفاة جدّي رحمه الله وجميع موتانا. إنّه الإرهاب والوحشية التي تُجرّدُ البشرَ من إنسانيّتهم. كانَت الجُثث المتفحمة مُلقاةً في الشارع، وألسنةُ النّيران لا تُفرّق بين الأشياء والأجسَاد، تحصدُ كلّ شيءِ يمرّ في طريقِها. لمْ أنَم حتّى الصّباح؛ حاولتُ المُرور على مداخل السّاحة مع إشراقة الشمس، كانَ الدُخانُ يتصاعدُ والصّمتُ يخيمُ على المنطقة. وكأنّها مدينةُ أشباح، كانت الحركةُ ضئيلة باستثناء حركة النهّابة وهُم يسطُون على المستشفى الميداني والمحلاّت المُجاورة بإشرافٍ من الشّرطة. 

لقيَ العشراتُ من الشّباب الطاهر مصرَعهم، البعضُ قضى بالرّصاص الحّي وأغلبُهم حرقاً؛ بينما كانَ القتَلة يتقهقهونَ شاربين نخْبَ النّصر. كُلما تساقطَ الشّهداء، كلّما أيقن الشّعب أن شطبَ هذه العاهات من سجلّ الوطن باتَ أمراً مُحتّماً. وتمرُّ الأيام، وتنتهي ثورتُنا بمؤامرةٍ دوليّة تولَتْ كِبرَها الجارةُ السعودية. لم يخلعوا السّفاح، لكنّهم أعطوهُ الحصانة ليسفكَ ما بقيَ من دمائنا. أبقَوْا عليه كسكّينةٍ في خاصرة الدّولة التي طمَح إليها الشّباب. 

مَنَحوا قادةَ حزبِهِ نصف الحُكومة ليُفشلوها، ودعموا المخلوع بكل آلات القتْل والفتَن. فتّتوا عضُدَ الثورة من الدّاخل بشراء الولاءات من المُرتزقة. بثّوا عُلماءَ السّلطان للتّشهير بالثورة وغذّوا الصراعات الداخلية لوصمِ الثورةِ بالفَوضى. وهاهُم اليوم يُلمّعونَ منْ ثُرنا ضدّهم كأبطالٍ لإنقاذ ما تبقّى من قُبحهم. عهدٌ لشهداء الثورة لنْ يحكُمنا من دمّر وطنَنا وسَرَق ثرواته. عهدٌ لنْ يحكُمنا من يقتُلنا إلّا على جُثَثنا الهزيلة الّتي أنهكَها الفقر والحِرمان. 

إذا كانتِ الحُكومةُ فاشلةً، فذلك لا يَعني بأية حال أن يأتيَ محلّها هؤلاء المُتعفّنون. سنُطهّر الحكومة (الرخوة)، وسنُنشئُ دولةَ القانون, وسُيحاكَمُ كلّ من أساءَ إلى قُدسيةّ الوطن وسَفَكَ دماءَ خيرة شبابِه. الرحمةُ على الشّهداء والمُشافاةُ للجرْحى.. والخزيُ والعارُ على مصّاصي الدّماء! 

 

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *