أرشيفات الوسوم: الجنوب

الحوثيون: رحلة التيه بين العزلة والتمدد

 *ميساء شجاع الدين20154791528389734_19
ملخص
أدى صعود الحوثيين المفاجئ بعد اجتياحهم صنعاء وإسقاطهم لمؤسسات الدولة يوم 21 سبتمبر/أيلول 2014 إلى المبالغة في تصوير القوة الذاتية للجماعة، رغم أن صعودها مرتبط بعوامل غير ذاتية، مثل إعتمادها على الدعم الإيراني الخارجي، أو ضعف خصومها بالداخل.يرجع مأزق الحوثي في أحد أوجهه إلى انفصاله عن واقع الزمن المعاصر والتغييرات التي طالت المجتمع اليمني، ولا يدركها قائد الجماعة المعزول في جبال مران بمحافظة صعدة، وكأية جماعة أصولية متشددة قد تنجح لفترة من الزمن في الحكم من خلال عزل مجتمعها وتشديد قبضتها الأمنية، لكنها تفقد توازنها إذا اضطرت إلى الانفتاح أو انزلقت في مواجهة مع قوى إقليمية، كما يجري حاليا في “عاصفة الحزم”، تنتزع منها أفضليتها في موازين القوى العسكرية.

مقدمة

أدى صعود الحوثيين المفاجئ بعد اجتياحهم صنعاء وإسقاطهم لمؤسسات الدولة يوم 21 سبتمبر/أيلول 2014 إلى المبالغة في تصوير القوة الذاتية للجماعة، رغم أن صعودها مرتبط بعوامل غير ذاتية، مثل إعتمادها على الدعم الإيراني الخارجي، أو ضعف خصومها بالداخل.

كما أثير الكثير من التساؤلات حول ماهية الجماعة التي سعى البعض للمبالغة في طبيعة التأثير الإيراني الفكري عليها، بينما اتجه البعض الآخر إلى المبالغة في وصفهم كجماعة إحيائية زيديَّة تخالف الطبيعة المعتدلة للزيدية. هذا الالتباس في توصيف الجماعة يعود إلى طبيعة نشأتها كجماعة مسلَّحة في الأساس، مبتعدة تدريجيًّا عن المحاولات الإحيائية الأولى للمذهب الزيدي.

ينشأ ارتباك جماعة الحوثي من تأرجحها بين موقف دفاعي عن هوية خاصة وإقليم في أعالي الشمال استوطنه مؤسسوها إلى التبشير بإيديولجيتها في باقي المناطق اليمنية والسعي للسيطرة على كامل البلد حين واتتهم الفرصة. هذه الحيرة وضعتهم أمام معضلات، أدخلتهم في ستة حروب مع نظام الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، وفي حرب جارية حاليا في مواجهة “عاصفة الحزم” التي يشنها تحالف دولي تقوده السعودية.

ما هي التحولات التاريخية التي شكَّلت مواقع وأدوار الحوثيين؟ وما هي الآفاق المحتملة لهم؟

صعدة: جبال التمرد والإمامة

مدينة صعدة الجبلية والمحاذية للحدود السعودية كانت خارج سيطرة الدولة اليمنية تقريبًا حتى عام 1980 التي شهدت تعيين أول محافظ للمدينة(1)، كمرحلة ثانية أتت بعد أحد عشر عامًا من وقوعها تحت سلطة النظام الجمهوري بعد حرب أهلية طاحنة بين المعسكرين الإماميِّ والجمهوري استمرت زُهاء سبعة أعوام منذ عام 1962 حتى عام 1969.

صعدة مدينة ذات خصوصية زيدية اكتسبتها منذ سكَنَها مؤسس أول دولة زيدية في اليمن الإمام يحيى بن الحسين القاسم الرَّسِّي عام 896، ومنها انطلق لتأسيس أول دولة زيدية باليمن، انهارت في حياة الإمام يحيى بن الحسين والملقَّب بالإمام الهادي الذي توفِّي في صعدة عام 911م/ 298هـ(2).

هذه كانت أول دولة زيدية، وكان يتم إحياؤها في كل مرة تضعف فيها الدولة المركزية، لكنها لم تحكم وتبسط سيطرتها وتصبح حالة سياسية ثابتة في اليمن إلا عندما دخل العثمانيون البلاد، وتمكّن اليمنيون -وفي مقدمتهم القبائل الزيدية- من طردهم لأول مرة عام 1635. منذ ذلك الحين، باتت الزيدية -مذهبًا ومنطقة- فاعلًا مؤثرًا في الحياة السياسية اليمنية(3).

من الشائع وصف الزيدية بأنهم قريبون في مذهبهم من أهل السُّنَّة وكأنهم سُنَّة الشيعة أو شيعة السنة؛ لأنه مذهب شديد الوسطية، وهو مذهب أسَّسه الإمام زيد بن علي زين العابدين (76هــ- 122هـ/ 695م- 740م)، ويعتمد على المذهب الفقهي الحنفي والمدرسة الفكرية المعتزلة(4). استمدت الزيدية سمعة الوسطية من موقفها من الصحابة؛ حيث إنها تعترف بشرعية الخلفاء السابقين على الإمام علي بن أبي طالب، حسب مبدأ صحة إمامة المفضول مع وجود الأفضل. يتميز المذهب الزيدي بمبدأ الخروج على الحاكم الظالم، وهذه فكرة فريدة بين المذاهب الإسلامية سنية وشيعية التي تؤمن بطاعة الحاكم؛ تفاديًا للفتنة أو تطبيقًا لمبدأ التَّقِيَّة حتى يعود المهدي المنتظر.

لكن تتفرع عن الزيدية عدة تيارات، مثل الجارودية التي لديها مواقف متشددة تجاه الصحابة، والمذهب الهادوي الأكثر شيوعًا باليمن، وهو منسوب للإمام الهادي الذي أضاف بند حصر حق الإمامة في البطنين؛ أي الإمام علي وزوجته فاطمة.

تأسست دول زيدية مؤقتة في إيران والمغرب لكنها لم تستقر إلا باليمن، وتحديدًا في أقصى شمال اليمن وهو ما يُعرف باليمن الأعلى. ومن المعروف أن قبائل حاشد وبكيل هما جناحا الإمامة الزيدية، وتمتد منطقة وجودهم من صعدة أقصى الشمال حتى مرتفعات يريم التي تقع جنوب العاصمة صنعاء بمسافة 193كم.

ولعل اجتماع طبيعة منطقة صعدة الجبلية وفقر مواردها مع طبيعة القبائل القتالية المستقرة هناك، تناسَبَ تمامًا مع مبدأ الخروج على الإمام الظالم الذي تميّز به المذهب الزيدي، وأدى لشيوعه في تلك المناطق.

السلفية في معقل الزيدية

أحدث إسقاط ثورة سبتمبر/أيلول 1962 للنظام الإماميِّ تغيرًا في مراكز القوى بالبلاد، حيث ظلت صعدة مدينة نائية معزولة لم يكسر عزلتها إلا أول طريق مسفلت يمتد من العاصمة صنعاء عام 1979. كما اعتمد اقتصاد المدينة على توريد المنتجات الزراعية كالفاكهة والتهريب مع السعودية، إضافة إلى هجرة أبنائها للسعودية(5).

في عام 1979، شهدت المدينة حدثًا محوريًّا عندما عاد أحد أبنائها، الشيخ مقبل الوادعي من السعودية وقد بات سلفيًّا بعد أن سافر إليها وهو من شيوخ الزيدية، فاتخذ موقفًا متشددًا من الزيدية التي تركها بحُجَّة معاناته داخلها من التمييز؛ لأنه ليس من الطبقة الهاشمية التي تحتكر القيادة. شارك الشيخ مقبل الوادعي جماعة جهيمان العتيبي في احتلال الحرم المكي، ووُضع في السجن حتى خرج من السعودية واتجه إلى صعدة عام 1979، حيث أسس المعهد السلفي المسمَّى دار الحديث في دماج بصعدة بتمويل سعودي(6).

لم يكن هذا التأثير السلفي الوحيد، فالمدينة شهدت عودة أبنائها مع بقية المهاجرين اليمنيين المطرودين من السعودية عام 1990؛ كرد فعل سعودي على الرئيس علي عبد الله صالح المساند لنظام الرئيس العراقي صدام حسين، وكان كثير منهم متأثرًا بطبيعة المذهب السلفي في السعودية، خاصة في جانبه الذي يركِّز على فكرة المساواة وعدم وجود أفضلية طبقية للمنتسبين لآل البيت.

كانت صعدة كغيرها من المدن اليمنية تشهد تمددًا سلفيًّا بعد انتشار المعاهد العلمية التي تأسست عام 1975 وكانت تحت إشراف الشيخ عبد المجيد الزنداني، وبتمويل سعودي تحت إشراف الدولة التي أعطتها وضع تعليم موازٍ للتعليم الحكومي، وصارت شهادتها معادلة للشهادة الثانوية في بعض التخصصات الجامعية، خاصة كلية التربية التي تخرِّج معلمي المدارس.

وكان هذا التمدد السلفي أحد نتائج تحالف الدولة اليمنية في الشطر الشمالي مع السعودية ضد اليساريين الذين كانوا يحكمون الجنوب، لكن مع ذلك ظلت الحكومة اليمنية تتعامل بحساسية مع مدينة صعدة، فالمعهد العلمي الوحيد بالمدينة كان يُدرِّس مناهج زيدية، واسمه معهد عمر بن عبد العزيز، على إسم الخليفة الوحيد المقبول عند الزيدية والذي تشاركها في تبجيله بقية فروعها المتطرفة ومختلف المذاهب السنية(7).

التسعينات: انبعاث الزيدية

بعد توحُّد اليمن عام 1990 دخلت البلاد مرحلة التعددية الحزبية، فتأسس أول حزب بمرجعية زيدية وهو حزب الحق. من اللافت أن الحزب عند تأسيسه أصدر وثيقة لعلماء الزيدية يتحدث فيها عن القبول بشرعية النظام وذكر فيها أن الإمامة صارت مؤسسة ميتة، وأن الصيغة الوحيدة المناسبة للعصر هي الديمقراطية التشاورية.

هذه الوثيقة الزيدية لم يتبناها بعض المرجعيات الزيدية المهمة، وعلى رأسهم العلامة مجد الدين المؤيدي -وهو أستاذ بدر الدين الحوثي والد عبد الملك الحوثي القائد الحالي للحوثيين- أحد المرجعيات الدينية المهمة في الزيدية، وأحد أقطاب تيار الجارودية في اليمن ذات الموقف الشيعي المتشدد من الصحابة(8).

بشكل متزامن وفي عام 1990، بدأ نشاط منتدى الشباب المؤمن، وهو عبارة عن مخيمات صيفية لأبناء المناطق الزيدية، وكانت تدرِّس مناهج دينية مبسطة عن المذهب الزيدي. وبلغت ذروتها عام 1997، عندما بدأت تتلقى دعمًا ماديًّا من الحكومة اليمنية.

كانت هذه المنتديات ثمرة جهود مجموعة من الشباب، أبرزهم حسين الحوثي ومحمد عزان وعبد الكريم جدبان، جميعهم سافروا لإيران في الثمانينات، وحصل حسين الحوثي على الدكتوراه من السودان عام 1993 ليعود لليمن يمارس نشاطه السياسي والدعوي بشخصيته الكاريزمية الجذَّابة، حيث استقطب العديدين. لم يكن حسين الحوثي رجل دين أو فقيهًا، بل كان شخصية ذات طموح سياسي يعتمد أساليب مؤثرة في الخطابة بمهاجمة أميركا وإسرائيل داعيًا لوحدة المسلمين، وبدأ حينها بتبني شعاره المتأثر بالثورة الإيرانية “الله اكبر.. الموت لأميركا.. الموت لإسرائيل.. اللعنة على اليهود.. النصر للإسلام”(9).

الحروب الستة

بدأت الحرب في صعدة شهر يونيو/حزيران عام 2004، ويصعب معرفة الرواية الحقيقية لسبب اندلاعها، لكنها على أية حال بدأت بمحاولة القبض على حسين الحوثي بتهمة قيادة تمرد مسلح ضد الدولة. بالطبع هذا يبدو إجراء طبيعيًّا، لكن في الدولة اليمنية بمنطقة قبلية ونائية مثل صعدة، قد يبدو هذا الإجراء عملًا استفزازيًّا للمجتمع المحلي، خاصة مع زعيم ديني-سياسي له كاريزما وأتباع كُثُر مثل حسين الحوثي.

انتهت الجولة الأولى من الحرب بمقتل حسين الحوثي في سبتمبر/أيلول عام 2004، لكن تجددت الاشتباكات في مارس/آذار عام 2005، فتوالت الاشتباكات العسكرية بين الطرفين لمدة ستة أعوام في ست جولات انتهت في فبراير/شباط 2010. وبدءًا من الجولة الثالثة للحرب (نوفمبر/تشرين الثاني حتى يناير/كانون الثاني 2006) صار عبد الملك الحوثي الأخ الأصغر وغير الشقيق لحسين الحوثي، هو قائد الجماعة العسكري، وليس معروفًا لماذا تم تجاوز إخوته الكبار. وقد يعود السبب إلى الطابع العسكري للمرحلة، حيث تم تجاوز أحد الإخوة المهمين والكبار مثل يحيى الحوثي الذي كان عضوًا في مجلس النواب منذ عام 1993 عن حزب الحق(10).

ولا ينحصر سبب طول فترة الحرب في صعوبة الأرض التي يدور فيها القتال، وهي أرض جبلية تسمح بحرب عصابات طويلة الأمد ولا تحسم عسكريًّا بسهولة، بل يتعلق أيضًا بالانقسامات داخل النظام اليمني؛ فالرئيس السابق علي عبد الله صالح زجَّ بحليفه القائد العسكري علي محسن وحلفائه السلفيين وحزب الإصلاح في الحرب على الحوثيين؛ لإنهاكهم حتى لا تكون لهم قدرة على إعاقة توريث ابنه، فلم يكن هدفه حسم المعركة بل إطالتها لاستنزاف حلفائه؛ حتى يخرجوا من سباق خلافته. أمَّا من جهة الحوثي فقد استفاد من طبقة المنتفعين من اقتصاد الحرب مثل التهريب وتجارة السلاح، فعزَّز ترسانته من السلاح، سواء من خلال السوق اليمنية أو المهرَّبة من الجيش، فباتت الحرب تتغذى من نفسها وتمتلك قوة الدفع الذاتي ولا يستطيع أحد السيطرة عليها؛ لأن الفُرقاء المتصارعين يجدون مصلحة مشتركة في إدامتها.

تحكمت في دينامية الصراع التي انخرط فيها الحوثيون الرهانات الداخلية، فظلت علاقة الجماعة بإيران محدودة حتى الجولات الأخيرة من الحرب، حين بدأت تظهر بداية التأثر بحزب الله في حربهم الدعائية، مثل طريقة تصويرهم لعملياتهم العسكرية ضد الجيش.

الثورة: تحولات جديدة

شارك الحوثيون في ثورة 2011 ضد الرئيس السابق علي عبد الله صالح، وكان تحركهم داخل الساحة لا يميل للهيمنة بخلاف حزب الإصلاح الذي سيطر على الساحة تنظيميًّا، فخلق له الكثير من العداوات ضمن المكونات المستقلة واليسارية.

اتخذ الحوثيون موقفًا معارضًا للمبادرة الخليجية، وهو موقف أقرب لموقف المستقلين وبعض أعضاء الأحزاب اليسارية والقومية، هذا الموقف زاد من مساحة التعاطف معهم، وأعطاهم فرصة للمزايدة الثورية على الآخرين متجردين من تحمل تبعات مسؤولية كل الفشل اللاحق.

كسبت الجماعة الكثير من التعاطف من خلال تعريفهم بمظلوميتهم في حروب صعدة داخل ساحة التغيير وسلوكهم الهادئ قياسًا بتسلط أعضاء حزب الإصلاح، وشكّلوا في تلك الأثناء تكوينًا سياسيًّا يُسمَّى جماعة “أنصار الله”، فكسبوا مناصرين لهم من محافظات يمنية مختلفة لم يكونوا موجودين فيها سابقًا.

انفرد الحوثيون بمحافظة صعدة حيث كانت الدولة اليمنية غائبة، وعيَّنوا لها محافظًا وهو فارس مناع -أحد أكبر تجار السلاح باليمن- وبدأ احتكاكهم ضد سلفيي دماج في صعدة وورود أنباء عن قتال بين الطرفين ومحاصرة الحوثيين لهم، لكن توظيف هذه الأنباء ضمن معارك الحوثيين والإصلاح شكّك كثيرًا بمصداقيتها لدى عموم اليمنيين المنشغلين آنذاك بالوضع العسكري والسياسي في صنعاء.

وثيقة الزيدية: أصولية الزيدية

كانت ثورة 2011 فاتحة لعهد جديد لدى الحوثيين من حيث التوسع العسكري والسياسي، وكذلك في الجانب الفكري. ففي عام 2012، أقرّ زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي مع مجموعة من علماء الجماعة في صعدة وثيقة أسموها: الوثيقة الثقافية والفكرية(11).

هذه الوثيقة تهدف إلى توضيح فكر الجماعة وتلخِّص موقفها من أصول العقيدة الزيدية، وتكشف بجلاء الطبيعة الأصولية غير المتجددة لجماعة ترفض علم الكلام بما فيه منهج المعتزلة وغيرها من مناهج فلسفيّة تخالف برأيهم نهج آل البيت عليهم السلام، كما تُعلِي من قيمة الجهاد في وجه الظالمين والمستكبرين. كما أن الوثيقة تُعلِي بشكل صريح من مكانة آل البيت، كما ورد في عدة بنود من الوثيقة، إضافة لجزء كامل تحت عنوان الاصطفاء، مشددة على الاصطفاء الإلهي لآل البيت.

الحوار الوطني: مسارات متناقضة

انطلق مؤتمر الحوار الوطني يوم 21 مارس/آذار عام 2013، وشارك فيه الحوثيون تحت اسم أنصار الله وبعدد 35 عضوًا، وتناقضت هذه المشاركة مع رفضهم المبادرة الخليجية التي يعدّ الحوار الوطني ضمن بنودها، وتحت الإشراف الأممي الذي كان الحوثيون يصفونه بالوصاية الدولية على اليمن.

لم يكن ذلك إلا مؤشرًا من مؤشرات تناقض الحوثيين في تلك المرحلة، حيث تبنوا كل مقولات الدولة المدنية كالعلمانية وتخصيص حصص للنساء، في تناقض مع الطبيعة العمليّة لطريقة حكمهم بصعدة التي تستند إلى قبضة أمنية شديدة تطبق معايير الشريعة الإسلامية بشكل منغلق ومتطرف، خاصة تجاه النساء.

يفسر هذا التناقض بأن الحوثي لم يتعامل مع المسار السياسي لمؤتمر الحوار عن قناعة، بدليل أنه كان في الواقع منشغلًا بفرض واقع سياسي جديد على الأرض من خلال القوة المسلحة التي يتفوق في استخدامها، فانشغل بمعاركه في المحافظات الشمالية، حيث نجح في إجلاء سلفيي دماج من صعدة في ديسمبر/كانون الأول عام 2013، في ظل صمت الدولة التي أفقدت كثيرين الثقة فيها.

مع انتهاء مؤتمر الحوار في يناير/كانون الثاني من 2014، شهدت البلاد أزمة سياسية عاصفة؛ بسبب انتهاء المرحلة الانتقالية دون أي تصور واضح لما بعدها، مع الضعف المتزايد لكفاءة الدولة؛ بسبب الوهن الأصلي في مؤسساتها وقلة خبرة القادمين الجدد من بقية الأحزاب، وباتت مؤسسة الرئاسة مشلولة؛ بسبب ضعف شخصية الرئيس عبد ربه منصور هادي، إضافة إلى تعثر هيكلة الجيش التي أبقت على نفوذ صالح، وكشفت ولاء بعض التكوينات العسكرية للإيديولوجية الإسلامية، واتجه بعضها نحو الولاء المناطقي والشخصي لصالح الرئيس عبد ربه منصور، وأما القطرة التي أفاضت كأس الخلافات فكان قرار الفيدرالية الذي حسمه بشكل شخصي رئيس الجمهورية وبطريقة مخالفة لقواعد مؤتمر الحوار.

في هذا المؤتمر عزَّز الحوثيون حضورهم الإعلامي من خلال رؤاهم المنفتحة والمتحررة بخصوص المرأة وإبعاد الدين عن الدولة وغيرها من أمور تشدّد فيها حزب الإصلاح والسلفيون. كذلك استثمروا في المظلومية بعد مقتل ممثلهم البارز في مؤتمر الحوار عبد الكريم جدبان، ثم رئيس فريقهم المشارك في المؤتمر الدكتور أحمد شرف الدين يوم 21 يناير/كانون الثاني 2013، وهو شخصية تتميز بحضور قوي ومهم داخل الجماعة، فقرّر الحوثيون الانسحاب من المؤتمر؛ بحجة تواطؤ الأجهزة الأمنية وتخاذلها في حمايته.

يبدو أن نية الانسحاب من المؤتمر في آخر لحظة كانت مناسبة لرغبة الحوثي في التملُّص من أي التزام سياسي، فامتنع عن التوقيع على وثيقة المخرجات، وتجرد من أي مسؤولية سياسية مقبلة، مستندة إلى مشاركتهم في الحوار.

مراكز القوى والحوثيون

اتجه الحوثيون للتصعيد العسكري مباشرة بعد مؤتمر الحوار، وكان هدفهم محافظة عمران الاستراتيجية والتي تبعد 50 كم شمالًا عن العاصمة صنعاء، وتعدّ مفتاح السيطرة على العاصمة صنعاء.

وفي يوم 2 فبراير/شباط 2014 نجح الحوثيون في هزيمة آل الأحمر وتدمير منزلهم، وآل الأحمر هم مشايخ حاشد لفترة طويلة من الزمن، وشيخ قبيلة حاشد عبد الله بن حسين الأحمر الذي توفي ديسمبر/كانون الأول 2009 كان أحد أقطاب الحكم في صنعاء، ومؤسسًا لحزب الإصلاح الذي يجمع بين تكوينات قبلية وجماعات إسلام سياسي على رأسها الإخوان.

عمران أيضا هي معقل لقبيلة حاشد التي ينتمي لها الرئيس السابق علي صالح، وميزت طبيعة سلطته القائمة على العصبية القبلية، فكانت قيادات الجيش وعلى رأسها علي محسن من القبيلة، وكذلك حظي شيخ القبيلة الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر بنفوذ سياسي هائل داخل الدولة اليمنية، يستمدها من دوره المشيخي وليس من منصبه السياسي كرئيس حزب أو رئيس مجلس نواب.

هذا التأثير القوي داخل الدولة من خارجها؛ بسبب نفوذ قبلي أو مناطقي خَلَق ظاهرة ما صار يُعرف بمراكز القوى في اليمن، وهي ظاهرة فاسدة بطبيعة الحال؛ لأنها تعبر عن نفوذ سياسي دون مساءلة؛ لأنه خارج عن مؤسسات الدولة، بل هو نفوذ يعتمد على المحسوبية والمال والسلاح.

لاقت هزيمة آل الأحمر ارتياحًا واسعًا بين أوساط اليمنيين، وهي هزيمة تعكس ضعف نفوذ أبناء الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر في قبيلتهم التي ورث قيادتها الشيخ صادق الأحمر أكبر أبنائه. وهذا الضعف ناتج عن استقرارهم بصنعاء وانشغالهم بالعمل التجاري بعيدًا عن هموم أبناء القبيلة الذين صاروا يستشعرون ليس بالفارق الطبقي المادي فقط، بل أيضًا بحس العجرفة والغرور في المعاملة. كذا كانت الحال في نظر يمنيين يعتبرون آل الأحمر أحد أبرز مراكز القوى الفاسدة.

اتخذ الحوثيون ذريعة إسقاط مراكز قوى الفساد لتبرير معاركهم بعمران ثم صنعاء وتصويرها كمنجزات وطنية، لكن هذا الشعار يظل دعاية لأن الحوثي لم يكتف بإسقاط مشيخة آل الأحمر بل اتجه لإسقاط كامل المحافظة، متخذًا هذه المرة ذريعة مقاتلة الجيش الموالي لحزب الإصلاح.

وبعد إسقاط الجناح القبلي ثم العسكري لحزب الإصلاح، قرّر الحوثي المضي بحربه في عمران التي استعرت بقوة في أواخر شهر إبريل/نيسان حتى سقطت المحافظة بالكامل يوم الثامن من يوليو/تموز 2014، وهو يوم مقتل اللواء حميد القشيبي قائد أحد أكبر ألوية الجيش اليمني “310 مدرع”.

بسقوط عمران تغيرت موازين القوى كثيرًا، وصار الحوثيون على مشارف صنعاء، والأهم أنه كشف عجز الدولة وسياسة رئيسها المتهافتة عندما ترك الحوثيين ينفردون بلواء عسكري في الجيش؛ بهدف التخلص من منافسه حزب الإصلاح، دون إدراك للتداعيات الخطيرة لهذا الحدث.

إسقاط العاصمة صنعاء

دخلت اليمن حالة شلل سياسي بعد مؤتمر الحوار، حيث انطفأ البريق الإعلامي المحاط بالمؤتمر، لتواجه الدولة اليمنية والقوى السياسية واقعًا مريرًا طالما أجَّلت التعامل معه، وهو واقع ضعف الدولة اليمنية المستمر وانعدام الثقة بين الأطراف السياسية المتصارعة على السلطة، والأهم سخط المواطن العادي الذي كان يعاني من التردي الشديد للأوضاع المعيشية من كهرباء، ومن ثَمَّ أزمة بنزين وغاز خانقة عانى منها منذ شهر مارس/آذار 2014.

نجح الحوثيون في استثمار أخطاء الآخرين، فاستغلوا رفع الحكومة للدعم عن المشتقات النفطية يوم 31 يوليو/تموز 2014، حيث قاموا بتسيير مظاهرات، ثم بدأوا في شهر أغسطس/آب حصارهم المسلح لصنعاء؛ بحجة التصعيد الثوري وبهدف إسقاط الحكومة الفاسدة.

كانت الحكومة اليمنية بالفعل متدنية الشعبية، وتعاني، لكن مع ذلك لم ينجح الحوثي في جذب الكثيرين من خارج دوائر عصبيتهم المناطقية-المذهبية، واعتمدوا في مظاهراتهم على حشد القبائل القادمة من خارج صنعاء.

استمرت المحاولات التفاوضية للوصول لحل وسط بين الحكومة والحوثيين، وهنا ظهرت إيران لأول مرة مباشرة، حيث طلبت أن تكون وسيطًا مباشرًا في المفاوضات، فبات واضحًا أن اليمن اندرج ضمن لعبة توازنات إقليمية عديدة من ضمنها التخلص من حركة الإخوان، وتنامي الحلف الروسي-الإيراني الذي أراد التحكم في باب المندب الممر المائي المهم.

كما جرت العادة، اتجه الحوثيون للتصعيد العسكري الذي تأهبوا له جيدًا، مع ربح الوقت في المسار السياسي التفاوضي الذي لم يقف حتى بعد سقوط صنعاء، فتم توقيع اتفاق السلم والشراكة يوم 21 سبتمبر/أيلول 2014، وبعد سقوط العاصمة أضيف الملحق الأمني الذي يقضي بسحب الحوثيين لميليشياتهم من العاصمة، وهذا ما لم يحدث أبدًا.

سهَّل للحوثيين مهمة إسقاط العاصمة صنعاء أن الجيش تقريبًا لم يقاتل؛ بسبب ضعف ثقته المتزايدة برئيس الجمهورية الذي لم يُعِدّ العُدَّة للمواجهة العسكرية، وكذلك تحالفه مع الرئيس السابق علي صالح بشبكة نفوذه الواسعة داخل مؤسسات الدولة عمومًا والعسكرية بالأخص. وهو تحالف فرضته طبيعة الجغرافيا المشتركة؛ فعلي صالح يمثل الزيدية بمعناها الجغرافي وبمكونها القبلي، والحوثي يمثل الزيدية بمعناها المذهبي، إضافة إلى اشتراكهما في معاداة حزب الإصلاح الذي حقد عليه صالح بسبب ثورة 2011، بينما يعاديه الحوثي لأسباب مذهبية، أهمها: انتشار عضوية الحزب بين أبناء المناطق الزيدية، وأخيرًا تعرَّض الطرفان لعقوبات مشتركة فرضها مجلس الأمن على الرئيس المخلوع صالح وأبي علي الحاكم -القائد العسكري للحوثيين- ليصبح تحالف تقتضيه ضرورة البقاء، وليس فقط مصلحة الاستيلاء على السلطة.

استمر الحوثيون في توسعهم العسكري نحو بقية المدن، حيث أحكموا سيطرتهم على المدن الشمالية، وأسقطوا محافظة حجة الزيدية، وذمار جنوبًا ليبسطوا سيطرتهم كاملة على الجغرافيا الزيدية. ثم بدأ توسعهم يخرج عن نطاق الزيدية، حيث اتجهوا شرقًا نحو محافظة الجوف الغنية بالبترول، ثم امتدوا غربًا نحو الحديدة الساحلية والتي يوجد فيها أحد أكبر موانئ البلد وهو ميناء الحديدة، ومن ثَمَّ جنوبًا نحو محافظتي البيضاء القبلية، وأخيرًا محافظة إب الزراعية.

هكذا يكون الحوثي سيطر أو يسعى للسيطرة على معظم أجزاء ما كان يُعرف باليمن الشمالي قبل الوحدة اليمنية عام 1990، باستثناء محافظة تعز التي تعدّ مدخلًا للمحافظات الجنوبية، وفيها احتقان طائفي-مناطقي شديد، وحال مشابهة في محافظة مأرب التي تلقت قبائلها دعمًا ماديًّا ومسلحًا كبيرًا من دول الجوار -تحديدًا السعودية.

مخاطر السلطة والتفكك

دعاية الحوثيين ضد الإصلاح ونجاحهم في القضاء على مراكز الفساد تلاشت تدريجيًّا بعد توسعاتهم العسكرية، وتحملهم لمسؤولية السلطة التي صارت كاملة بعد سقوط ألوية الحماية الرئاسية يوم 21 يناير/كانون الثاني 2015.

ومن ثَمَّ وقعت الجماعة في مأزق أمام المجتمع الذي يعاني من أزمات اقتصادية ومعيشية شتى، ولا يمكن التحكم به فقط من خلال الآلة القمعية واللجوء إلى نفس الدعايات التي تعتمد على تتبع أخطاء الآخرين كمسوّغ سياسي للانقلاب على السلطة. كذلك مع مرور الوقت بدأ الطابع الطائفي-السلالي للجماعة يستفز المكونات اليمنية الأخرى؛ بسبب سلوكيات الحوثيين العدوانية والقمعية.

لكن بعد هروب الرئيس هادي لعدن، ثم لحاق وزير دفاعه اللواء الصبيحي به، يصبح اليمن أمام سلطتين؛ سلطة الأمر الواقع في صنعاء وسلطة شرعية في عدن، فباتت الأزمة السياسية أعمق. ويبدو، بالتالي، شبح تقسيم اليمن فكرة واردة بقوَّة كانعكاس طبيعي للانقسام السياسي للصعود الحوثي، وكذلك كانعكاس لحالة الانقسام المجتمعي؛ بسبب صعود ميليشيا عسكرية تعتمد على العصبية الطائفية في تحركها والقوة المسلحة، وترفض كل توافق سياسي طوعي.

عزّز الحوثي بانقلابه على الشرعية وسيطرته بالقوة على مؤسسات الدولة حالة الانقسام المجتمعي على أسس طائفية-مناطقية، وأحيا ثارات تاريخية في المناطق والقبائل التي حاربت الإمامة في وقت سابق، وآخرها الحرب الأهلية في ستينات القرن الماضي. هذا الانقسام يتمدد أفقيًّا ورأسيًّا في ظل دولة منهارة وقوى سياسية ضعيفة، وينعكس في الحضور المتصاعد للجماعات العسكرية في المناطق الأخرى، سواء كان تنظيم القاعدة في جزيرة العرب أو قوى قبلية مثل اللجان الشعبية بعدن أو تحالف قبائل مأرب.

تبدو محاولات التسوية السياسية ضعيفة؛ بسبب ضعف المكونات الداخلية، سواء تلك التي تعتمد على السلاح والعصبية أو تلك التي تحوّلت للافتات حزبية تعاني العجز والشيخوخة، إضافة إلى أن أية تسوية سياسية باليمن صارت مرتبطة بتسوية إقليمية، تبدو حظوظها متدنية مع اندلاع “عاصفة الحزم” التي شنَّها تحالف تقوده السعودية بعد أن أنشأت إيران جسرًا جويًّا لدعم الحوثيين، واتجاه الحوثيين إلى السيطرة على عدن؛ للقضاء على سلطة الرئيس هادي بالكامل. هذا الوضع التمزيقي الذي يتجه لتكريس حالة الانقسام يناسب كثيرًا المكونات التي تدّعي احتكار طائفة أو منطقة، لكنها لن تنجح بالحكم على كامل البلد.

الحوثي كجماعة تدّعي احتكار الطائفة الزيدية، لا تستطيع إنكار حقيقة أنها لا تستطيع إلغاء تأثير ستة عقود من الجمهورية وتعليم حديث وتمدُّد سلفي في مناطقها؛ مما يفسِّر المظاهرات الحاشدة التي شهدتها محافظة ذمار المحاذية للعاصمة صنعاء -جنوبًا- وهي التي كانت تُعرف تاريخيًّا بكرسي الزيدية.

يرجع مأزق الحوثي أيضًا إلى انفصاله عن واقع الزمن المعاصر والتغييرات التي طالت المجتمع اليمني، ولا يدركها قائد الجماعة المعزول في جبال مران بمحافظة صعدة، وكأية جماعة أصولية متشددة قد تنجح لفترة من الزمن في الحكم من خلال عزل مجتمعها وتشديد قبضتها الأمنية، لكنها تفقد توازنها إذا اضطرت إلى الانفتاح أو انزلقت في مواجهة مع قوى إقليمية، كما يجري حاليا في “عاصفة الحزم”، تنتزع منها أفضليتها في موازين القوى العسكرية.
_____________________________
ميساء شجاع الدين – باحثة في الشؤون اليمنية

الهوامش والمراجع
(1) Salmoni Barak A, Loidolt Bryce, Wells Madeleine. Regime and Periphery in Northern Yemen. International Defense Research Institute. United States of America. 2010. Ch 3. P 81
(2) Burrowes, Robert D. Historical Dictionary of Yemen. London. The Scarecrow Press Inc. 1995. P428.
(3) سالم، السيد مصطفى: “الفتح العثماني الأول في اليمن 1538-1635″، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1969م، الفصل السابع، ص338.
(4) Burrowes, Robert D. Historical Dictionary of Yemen. London. The Scarecrow Press Inc. 1995. P428
(5) Salmoni Barak A, Loidolt Bryce, Wells Madeleine. Regime and Periphery in Northern Yemen. International Defense Research Institute. United States of America. 2010. Ch 3. P83
(6) Salmoni Barak A, Loidolt Bryce, Wells Madeleine. Regime and Periphery in Northern Yemen. International Defense Research Institute. United States of America. 2010. Ch 2. P 89
(7) هيكل، برنارد: “البنى السياسية والقانون: الثابت والمتحول”، “تحدي المألوف: اليمن: دراسات أنثروبولوجية وتاريخية”، المعهد الأميركي للدراسات اليمنية، مفوضية الشؤون الثقافية والتعليمية في حكومة الولايات المتحدة الأميركية، 2006، ص318.
(8) المصدر السابق، ص315.
(9) Salmoni Barak A, Loidolt Bryce, Wells Madeleine. Regime and Periphery in Northern Yemen. International Defense Research Institute. United States of America. 2010. Ch 3. P 98
(10) Salmoni Barak A, Loidolt Bryce, Wells Madeleine. Regime and Periphery in Northern Yemen. International Defense Research Institute. United States of America. 2010. Ch 6. P 195
(11) https://dl.dropboxusercontent.com/u/24926962/zaidi.pdf

 *نقلاً عن مركز الجزيرة للدراسات الاستراتيجية

 

“الحوثي” يتحرّك في تعز تمهيداً للمعركة المؤجلة

تعز – وجدي السالمي

فرانس برس
يبدو أن محافظة تعز، جنوبي اليمن، والتي تحتل المرتبة الأولى من حيث عدد السكان في الجمهورية، بدأت تقترب منها فوضى تحالف الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، وجماعة “أنصار الله” (الحوثيين). رغم ما تبذله القوى السياسية والسلطة المحلية، لتجنيبها شبح انهيار مؤسسات الدولة والانجرار خلف الحرب الأهلية، إلا أنّ صالح و”الحوثيين”، يحضّرون لمعركة غير واضحة المعالم في محافظة تعز جنوب اليمن.

ومع انطلاق الضربات الجوية لــ “عاصفة الحزم” التي تقودها السعودية، والتي استهدفت من خلالها المواقع العسكرية الموالية لتحالف “الحوثيين” وصالح، وألحقت هزيمةً معنويةً وميدانيةً، بسلطة الانقلاب في اليمن. بدأ مسلّحو جماعة الحوثي وقوات موالية لصالح، تتوسع في انتشارها في مدينة تعز جنوب اليمن، التي أصبحت حصن أمان لهذين الطرفين، إذ تشهد المحافظة منذ أيام تحشيداً مسلحاً من قبل الحوثيين، وتصل إلى المدينة تعزيزات عسكرية ومجاميع حوثية مسلحة بطرق مختلفة.

جماعة الحوثي تفرض وجودها بقوة السلاح في محافظة تعز، وتواجه بالقمع سلمية المظاهرات اليومية، التي تشهدها تعز منذ اجتياح الجماعة للعاصمة صنعاء في 21 سبتمبر/ أيلول، رفضا لانقلاب تحالف صالح والحوثيين على الشرعية.

في هذا السياق، أشار الناشط السياسي أحمد الوافي، في حديثٍ لـ “العربي الجديد”، إلى أنّ مسلّحي جماعة الحوثي وصالح، يتحرّكون في تعز بوتيرةٍ عالية، بهدف كبح النضال الثوري السلمي في تعز. ولفت إلى أنّ معسكر القوات الخاصة، أصبح قاعدةً وغرفة عمليات لمسلحي الحوثي، وأن اسلحة مختلفة الأنواع قادمة من محافظة الحديدة غرب اليمن، تم إدخالها إلى معسكر القوات الخاصة الموالية للجماعة على متن سيارات محملة بالخضروات.

بدوره، أوضح أحد الناشطين أنّه تمكّن من توثيق تحرّكات لمسلّحين بين مقرّ جماعة الحوثي الكائن في حي الجحملية، وبين مقرها الرئيسي في بالحوبان، على متن سيارات مجهولة لا تحمل لوحات مرورية “أي غير مرقمة”.

وكانت قد وصلت تعزيزات عسكرية من صنعاء إلى تعز منتصف مارس/آذار، حيث معسكر القوات الخاصة، التي اعتبرها محافظ تعز شوقي احمد هائل، بقيادة العميد محمد حمود الحارثي، قوات متمردة على قرارات اللجنة الأمنية، بعد أن جعلت معسكرها تحت تصرف جماعة الحوثي.

وفي غضون ذلك، ذكر رئيس مركز العدالة الانتقالية، الدكتور ياسين عبد العليم القباطي، في حديثٍ لـ “العربي الجديد”، أنّ مسلّحي الحوثي يتحرّكون في شوارع تعز بطريقة استعراضية مستفزة، مستخدمين أطقماً عسكرية تتبع القوات الخاصة الموالية لهم، باللباس العسكري لهذه القوات ذاتها، رغم أنهم لا ينتمون إلى المؤسسة العسكرية.

وبحسب القباطي، فإنّ الحوثيين أوضحوا له أنّ “التحشيد لا يستهدف تعز، وإنما يأتي بغرض التوجه إلى الحدود مع المملكة العربية السعودية، لحماية الأراضي اليمنية”، كاشفاً عن حصوله على معلومات تؤكد أن الحوثيين يعتزمون اقتحام إصلاحية السجن المركزي في تعز، وإخراج السجناء، بهدف إحداث فوضى في المحافظة.

 

إلى ذلك، علم “العربي الجديد” من مصادر أمنية خاصة، أنّ عضو اللجنة الثورية لجماعة “الحوثي”، صادق أبو شوارب، يجري لقاءات مكثفة في تعز منذ أيام، لإقناع قائد الشرطة العسكرية في تعز، وأركان حرب النجدة العسكرية، بقبول تجنيد بعض عناصر الجماعة في هذه الأجهزة الأمنية.

وأشارت المصادر إلى أنّ مسلحي جماعة الحوثي، وأفراداً من جنود الحرس الجمهوري في معسكر اللواء”22″، الموالي لنجل صالح بدأت تنتشر بالقرب من مبنى إذاعة تعز، الواقعة في المنطقة الشمالية للمدينة “الحوبان”.

من جهةٍ أخرى، وصف قيادي يمني في السلطة المحلية بديوان محافظة تعز، طلب عدم الكشف عن اسمه، الوضع السياسي والأمني في محافظة تعز بالمتأزم، وقال إنّ “الحوثيين” وعلي عبدالله صالح قاموا باجتياح الجنوب، متسببين بحالات فوضى ونهب لكافة مؤسسات الدولة.

كما لفت إلى انقسام اللجنة الأمنية في تعز، بين من يساند الحوثيين، وبين من يقف مع الشرعية الدستورية. وكشف أن لقاءً جمع الأحزاب و”الحوثيين”، وقيادة في السلطة المحلية يوم السبت 28 مارس/آذار، من اجل الوصول الى اتفاق مكمل لاتفاقيات سابقة، يقضي بتجنيب تعز الصراع المسلح، حفاظاً على النسيج الاجتماعي، ولكن هذا اللقاء فشل في تحقيق هدفه، لعدم وجود رغبة لدى “الحوثيين” بذلك.

نقلاً عن: “العربي الجديد”

القبائل تتحالف لإخراج وزير الدفاع من صنعاء إلى عدن.. في صفعة جديدة للحوثيين

خرج متخفيًا في زي شعبي.. ونُهب منزله بعد تأكد فراره وخطف 30 من أنصاره.. وقتل أحد حراسه > توقع فرار مزيد من الوزراء
1425835779465922100

                                          مع محافظ لحج أحمد عبد الله المجيدي (رويترز)
صنعاء: عرفات مدابش
تمكن تنسيق موسع لقبائل في شمال اليمن وجنوبه وشرقه، من تهريب وزير الدفاع في الحكومة المستقيلة اللواء محمود الصبيحي، إلى عدن، في عملية تعزز موقف الرئيس عبد ربه منصور هادي في صراعه على السلطة مع الحوثيين، وتمثل في الوقت نفسه صفعة جديدة يتلقاها الحوثيون في اليمن، بعد نحو أسبوعين من مغادرة الرئيس هادي إلى المدينة الجنوبية نفسها، التي باتت العاصمة الجديدة لليمن الموحد، باعتبار أن صنعاء محتلة من قبل الجماعة الشيعية المتمردة.وتمكن وزير الدفاع اللواء محمود الصبيحي من مغادرة صنعاء، محاطا بميليشيات الحوثيين الذين كلفوه، الشهر الماضي، تولي منصب وزير الدفاع، في ظل غياب الحكومة. وأكدت مصادر يمنية جنوبية أن الوزير الصبيحي غادر صنعاء ظهر السبت ووصل إلى المحافظات الجنوبية فجر أمس الأحد. وقالت مصادر مقربة من الوزير الصبيحي لـ«الشرق الأوسط» إنه «استخدم أسلوب التمويه في عملية فراره، بعد أن اطمأن الحوثيون إلى أنه بات جزءا من إدارتهم للدولة في صنعاء وطوع أيديهم وأوامرهم».

وذكرت المصادر أن الصبيحي خرج من منزله على أساس أنه ذاهب لحضور مناسبة اجتماعية (وليمة غداء)، لكنه لم يرجع، فيما انقسم موكبه إلى قسمين كل منهما سلك طريقا نحو عدن باتجاهين مختلفين، في الوقت الذي قامت فيه مجاميع قبلية من «إقليم سبأ»، محافظة مأرب تحديدا، بنقل الصبيحي إلى المحافظة في شرق البلاد، ثم إلى تخوم محافظة شبوة الجنوبية المجاورة، ومنها إلى البيضاء ويافع ثم إلى منطقة رأس العارة، مسقط رأس الوزير، حيث منزله وعشيرته.

1425835779485922300

زوار أمام منزل وزير الدفاع اليمني اللواء الصبيحي بعد وصوله إلى مسقط رأسه في رأس العارة في ناحية الصبيحة بمحافظة لحج أمس (رويترز)

وقال مصدر قبلي موثوق في مأرب لـ«الشرق الأوسط» إن «المعلومات المؤكدة تشير إلى أنه وصل إلى مدينة مأرب مساء السبت ما بين التاسعة والعاشرة ليلا برفقة مجاميع قبلية»، ويعتقد أن هذه المجاميع هي التي سلمته إلى مجاميع أخرى على حدود محافظة شبوة، حيث كان ينتظره مسلحون قبليون. وكشفت المصادر أنه «جرى تسريب خبر فرار اللواء الصبيحي قبل وصوله إلى الجنوب، وهو ما أدى إلى تعزيز الإجراءات الأمنية على الطرقات المؤدية إلى عدن». وقال الصبيحي في تصريحات بعيد هروبه إنه خرج من منزله ظهر يوم السبت من صنعاء بالتنسيق مع مشايخ وأعيان من محافظة مأرب. وأوضح أنه سلك طريق صنعاء – مأرب حيث وصل إلى محافظة مأرب مع عصر يوم السبت، في حين تحرك على الفور عدد من الأطقم الخاصة بحراسته وتوجه أحدها صوب طريق صنعاء – الحديدة، وتحرك طقم آخر صوب صنعاء – ذمار بهدف إيهام الحوثيين بأنه ربما يكون معهم. وأضاف، في تصريحات لموقع «عدن الغد» المقرب من الرئاسة اليمنية، أنه «استبدل السيارة التي كان على متنها بسيارة أخرى أقلته إلى مديرية (عين) القريبة من بيحان بمحافظة شبوة حيث كان بانتظاره موكب من عشرات المسلحين من أبناء محافظات جنوبية عدة»، وحسب رواية الوزير اليمني، فقد انطلق «لاحقا ضمن الموكب بمنطقة جبلية وصحراوية تفصل بين البيضاء وشبوة، حيث وصل إلى أطراف مناطق البيضاء قبل أن يمر لاحقا إلى (يافع) ويتوقف عند بعض مشايخها لساعة»، وأكد اللواء الصبيحي أنه «انطلق لاحقا من يافع صوب منطقة الملاح بردفان حيث سلك طرقا فرعية وصولا إلى منطقة العند ومن ثم وصولا إلى منزله بمنطقة رأس العارة».

وبينت أولى الصور التي التقطت للوزير اللواء محمود سالم الصبيحي عقب وصوله إلى مسقط رأسه، أنه كان متنكرا بزي شعبي، عبارة عن ثوب وجاكيت وغترة، وهي في الغالب ليست من الأزياء التقليدي للمنطقة الجنوبية في البلاد. وبينت الصور التعب والإرهاق الذي اعتراه بسبب مشقة السفر في المناطق الجبلية والتنقل من منطقة إلى أخرى ومن سيارة إلى أخرى، حتى حط الرحال في الجنوب.

وقالت مصادر إن الحوثيين قاموا بنهب منزل اللواء الصبيحي بعد ساعات من انتشار خبر هروبه كما قاموا بقتل أحد حراسه وخطف نحو 30 من أنصاره. وأشارت محلية خاصة لـ«الشرق الأوسط» إلى إن «جماعة الحوثي المسلحة نصبت كمينا لموكب خاص بالوزير في الخوخة بمحافظة الحديدة، غرب اليمن، بعدما علموا بهروبه، حيث كانوا يتوقعون وجود الوزير ضمن الموكب لكنهم فوجئوا بعدم وجوده.. وقاموا باعتقال 5 من أفراد حراسة الوزير وقتل أحدهم بعد اشتباكات جرت الطرفين، عندما كانوا في طريقهم إلى محافظة عدن.

وأشارت المصادر إلى إطلاق سراح بعض أفراد الحراسة المعتقلين، في وقت لاحق أمس. وحسب المصادر فقد لقي أحد حراس وزير الدفاع مصرعه وجرح آخرون في الكمين المذكور.

وقال المحلل السياسي ياسين التميمي لـ«الشرق الأوسط» إن «ما حدث في الخوخة يدل بوضوح على حالة الارتباك التي تواجهها الميليشيا الانقلابية المسلحة.. وتشير إلى أن أشياء خطيرة تحدث في صنعاء خارج سيطرة الجماعة الحوثية المسلحة». وأضاف التميمي: «أعتقد أن خروج وزير الدفاع اللواء الركن محمود الصبيحي من صنعاء ووصوله إلى عدن قد مثل ضربة قاصمة للجماعة الحوثية التي كانت قد نجحت لوقت قصير في استغلال السمعة الحسنة للوزير الصبيحي في إضفاء طابع الشراكة الوطنية في التغيير عبر القوة المسلحة». وتوقعت مصادر أخرى فرار وزراء آخرين إلى عدن، من بينهم وزير الداخلية اللواء جلال الرويشان.

وتؤكد المصادر أن اللواء الصبيحي، عقب استقالة الحكومة ومحاصرة منزله وجعله تحت الإقامة الجبرية، خضع لنوع من الابتزاز من قبل الحوثيين الذين رفعوا الإقامة الجبرية عنه لكنهم أخضعوه لحصار غير معلن طوال الفترة الماضية، وبالأخص منذ أجبروه على حضور حفل إصدار «الإعلان الدستوري» الذي أقاموه في القصر الجمهوري في 7 فبراير (شباط) الماضي.

وتقول مصادر إعلامية في عدن لـ«الشرق الأوسط» إنه «بوصول اللواء محمود الصبيحي وزير الدفاع إلى مسقط رأسه جنوب اليمن، يكون قد وضع حدا لكثير من التكهنات والإشاعات التي أحيطت بوجوده في العاصمة صنعاء وزيرا للدفاع ورئيسا للجنة الأمنية العليا خلال الفترة المنصرمة التالية لاستيلاء ميليشيا الحوثي على قصر الرئاسة وإجبار رئيس الدولة عبد ربه منصور ورئيس حكومته خالد بحاح على الاستقالة ومن ثم وضعهما تحت الإقامة الجبرية». وتضيف المصادر أنه منذ ظهور الوزير الصبيحي في حفل «الإعلان الدستوري»، أصبح «الرجل يمثل لغزا محيرا وصادما للبعض أيضا، خاصة لأولئك الذين عرفوه أو راهنوا عليه كقائد عسكري أثبت كفاءة خلال سنوات توليه لمناصب قيادية عدة كان آخرها قيادته للمنطقة العسكرية الرابعة بعدن التي تضم محافظات عدن ولحج وتعز وأبين والضالع». وتردف المصادر الإعلامية أن الصبيحي و«توليه لمنصبه تحلى بكفاءة واحترافية فضلا عن صرامته ونزاهته، وهذه جميعها جعلته محل إجماع شعبي وحزبي ونخبوي أهله لتبوء حقيبة الدفاع في حكومة خالد بحاح المستقيلة إثر اجتياح ميليشيات جماعة الحوثي وأعوانها من الموالين للرئيس السابق علي عبد الله صالح لما بقي من مؤسسات وهيئات ووزارات وحكومة ورئاسة.

وترى المصادر نفسها أن مزاولة الوزير لمهامه العسكرية ورئاسته للجنة الأمنية العليا في سلطة الحوثيين «بكل تأكيد عد ورقة مهمة أريد استثمارها من جماعة الحوثي وحليفه صالح، فالاثنان أرادا الاحتفاظ بالوزير كورقة رابحة قصد بها تهدئة وطمأنة الجنوب المنتمي إليه رئيس الدولة ورئيس الحكومة، وهذا بالفعل ما نجحت به جماعة الحوثي ولو مؤقتا».

وتقول المصادر إن «التحاق الوزير الصبيحي بركب الرئيس هادي بكل تأكيد ستكون له تداعيات مؤثرة وفاعلة في المشهد السياسي اليمني الذي ما زال يسوده الغموض والتعقيد نظرا لتعدد وتشعب الولاءات القبلية والمناطقية والجهوية والطائفية والمذهبية وأيضا الشخصية، ورغم هذه التعقيدات هناك خيط أمل يتمثل برئاسة هادي المعول عليه قيادة اليمن وفي ظرفية حرجة كهذه التي لا تقبل المزيد من التفكك والتمزق المجتمعي وعلى وجه الدقة ما يتعلق بالجنوب وعدن بالذات كحاضنة وملاذ ومنقذ لما يمكن إنقاذه من انهيار مؤسسي وقيمي وبنيوي وسياسي»، وفي إشارة إلى أهمية وجود الوزير الصبيحي في عدن، تؤكد المصادر أنه «إذا كان الرئيس هادي قد استطاع خلال مدة قصيرة ترتيب وضعه كرئيس شرعي يحظى بدعم القوى المجتمعية الجنوبية التي تقاطرت إلى عدن وفي مشهد دال ومعبر عن تضامن جمعي يطوي خلافات وصراعات ماضية جنوبية – جنوبية، فإن انضمام الوزير الصبيحي يأتي في هذا السياق الداعم والمعزز للرئيس هادي ولقيادته للمرحلة التاريخية الاستثنائية المدعومة شعبيا ووطنيا وإقليميا ودوليا».

وكان الرئيس عبد ربه منصور هادي تمكن في 21 فبراير الماضي من مغادرة مقر إقامته الجبرية في منزله بالعاصمة صنعاء، في عملية لا تزال معظم تفاصيلها الحقيقية غائبة عن الرأي العام. وجاءت خطوة وزير الدفاع المقرب منه لتؤكد على التوجه الذي ينتظر عدن في المرحلة المقبلة، وهو أن تتحول إلى مركز لإدارة شؤون اليمن، أو بالأحرى الجنوب والمناطق الشرقية والوسطى التي لم يتمكن الحوثيون بعد من السيطرة الكاملة عليها.

مآلات المشهد اليمني والسيناريو الوشيك

*هدى العطاس

هدى العطاس

تبدى المشهد اليمني أخيراً غارقاً في «سورياليته»، بحيث لا تمكن الإحاطة بمفردات لوحته أو فك تشابكها أو تفسير مضامينها. لا يمكن قياسه على قاعدة منطقية. لا غرو ولا غرابة، فلطالما عاشت الجغرافيا اليمنية خارج سياق المنطق منذ ما يقارب ربع قرن، مجسِّدة اللامعقول بكل تجلياته. وفي ذروة درامية، انكشف المشهد عن وضع تجاوز مرحلة التنبؤ بالخطر إلى جرف سحيق من الأخطار.

 لا أدعي الإحاطة هنا بكل أركان المشهد، إنما أركز على ركن أساسي وجوهري فيه، وهو مستقبل الجنوب وقضية شعبه في خضم الزلازل والانهيارات الكاسحة والمتسارعة، ما لا يمنع المرور العابر على ركن آخر، وهو القضية الشمالية التي تتبلور تجسداتها ضمن علاقات لا يمكن فصمها لواقع حضور القوة الفتية والمتمكنة المتمثلة بالظاهرة الحوثية وعلاقة الأخيرة بمستقبل ترتيب وضعها في الشمال اليمني. ومن خلال قراءة الأحداث في المناطق الشمالية، فإن الأمر من وجهة نظري سينتهي إلى فرض القوة الواقعية، وهي جماعة الحوثي السياسية والمليشيوية، شكلاً استراتيجياً للشمال يتمثل في تنازل أو مقاربة الحوثي متطلبات المناطق الأكثر قوة وحضوراً حزبياً وسكانياً و «مشاغبة»، حيث سيلجأ إلى مراضاتها ترغيباً قبل الترهيب. ولن نستغرب إذا رأينا في مستقبل الأيام تشكيل جماعة الحوثي مجلساً أو هيئة وطنية تتموضع على رأسها شخصية من المناطق الوسطى، أوأن نرى مكارم كثيرة تقدم لأبناء هذه المنطقة لاستمالتها وسد باب أخطارها، عدا استرضاء واستقطاب بقية مناطق الشمال اليمني التي تتشابه وحالة المناطق الوسطى وإن بصورة أقل.

 أما المرتكز الجوهري في المشهد، فهو مستقبل الجنوب الذي سيشكل حجر الزاوية لتبلورات الجغرافيا «اليمنية» والمنطقة بشكل عام. ولشدة تعقد الحالة الجنوبية وتعقيدها، فإن مآلاتها تتبدى أكثر تعقيداً وخطورة. حيث تتربص سيناريوات عدة بهذه المنطقة، ليس أدناها أطماع الشمال اليمني الذي مهما تعددت وجوه أنظمته فإنها تلتقي عند نهبها أرض الجنوب واحتلاله واعتباره منطقة ثروة لا يمكن التخلي عنها، كما يصرخ بهذا الجنوبيون في «حراكهم» الذي تصاعد ليغدو ثورة لا يمكن القفز على حقيقة وجودها، بل وجود شعب على هذه الأرض كانت له دولة مستقلة قبل أقل من ربع قرن دخلت في اتفاقية كارثية مع دولة الشمال اليمني أثبتت تداعياتُها مجازيةَ تسميتها بـ «الوحدة»، والنتيجة أنها تحيلنا على واقع آخر لا يمكن إغماطه أو طمره بأن هذا الشعب سجل سبقاً في «الحراك النضالي» منذ تسعينيات القرن الماضي وعنده قضية يسميها «قضية شعب الجنوب وأرضه وبناء دولته المستقلة ذات السيادة».

 غير أن تطورات المشهد تذهب إلى استقراء قادم خطير سيقضي على التطلعات العادلة لشعب الجنوب ويذهب باستقراء المنطقة أدراج الرياح، لأن الجنوب يهيأ من أطراف وتيارات ومصالح داخلية وإقليمية ودولية للوقوع في براثن القوى الإرهابية المتأسلمة وفلول التيارات والأحزاب التقليدية المنغمسة في البراغماتية والفساد.

  الانفجار الأخير في المشهد يشير إلى أن القوى الإقليمية وربما الدولية تعيد إنتاج القوى التقليدية التي سبق أن شبكت وأقامت مصالحها معها، غير إن الأخطر في توتير الوضع أن مواقف تلك الدول لن تكون متجانسة وقد لا تتناغم، بل ستجري ضمن استقطابات المصالح والتقاطعات، كذلك مؤشرات الخلاف الداخلي الذي لا يفتأ يظهر بين فينة وأخرى. غير أن ردات الفعل المواكبة للحدث الحوثي ستلتقي جميعها عند دعم القوى التقليدية الشمالية وبعض عناصر الكومبرادور الجنوبي.

  وضربت لنا الأحداث الماضية مثالاً وإن بدا كمؤشر غير مباشر: حينما سيطرت مليشيات وجماعات الحوثي في ما سمي «انقلاباً» على مقاليد النظام في صنعاء بعد أن تمكن لها الأمر في أغلب مناطق الشمال اليمني، تأخر رد الأحزاب التقليدية «الكبرى» ولم نر منها بياناً لحظة انقضاض الحوثي، حتى أعلن مجلس التعاون الخليجي بيانه وسمى الأمر كما رأه «انقلاباً». حينها رأينا البيانات من تلك الأحزاب تترى في إدانة « الانقلاب» الحوثي. ورأينا في المقابل نشاطاً إدارياً وشبه سياسي لمنتسبي تلك الأحزاب المتسنمين وظائف عليا في الجنوب. فجأة ظهر نشاط محموم وتبن لمواقف ودعوات من تلك الأحزاب عالية النبرة عن الجنوب وضرورة الحفاظ عليه وعلى ثرواته. رافق ذلك في المقابل تحرك واضح ومشبوه لعناصر الإرهاب القاعدي وتسلمها أو تسليمها عنوة بعض المعسكرات وإسقاطها بعض المدن الجنوبية.

 تشير ذبذبات الأحداث الأخيرة إلى أن هناك لربما تنسيقاً ما يحاك – ويشرئب برأسه – بين عناصر تنظيم «القاعدة» وميليشيات «أنصار الشريعة» في الجنوب وبعض الأحزاب التي ترتكز على مرجعية «إسلاموية» وأخرى براغماتية تلتقي جميعها عند انتهاز فرصة إدارة الوضع المأزوم بهاجس تسلم الجغرافيا الجنوبية الوشيكة السقوط. وهذا ما يضعنا أمام مؤشرات سيناريو تتعامد فيه مصالح عناصر تنظيم القاعدة ومليشيات أنصار الشريعة وتلك الأحزاب ضمن سياق علاقة استراتيجية للسيطرة على الجنوب تكون فيها ميليشيات القاعدة الجناح العسكري والميداني والأحزاب والتيارات السياسية الجناح السياسي والإداري، مع عدم إغفال تغيير شكلي يتناسب والحالة الجنوبية «قضية شعب الجنوب» ونهبها بتحوير شكلي من قبيل تغيير الاسم الحركي لتلك الأحزاب والتيارات إذا استدعى الأمر واستوجب السيناريو. وسيكون لدينا نسخ مفرخة من أحزاب هي في الأصل شمالية المنشأ والمرجعية، ويستثنى من ذلك الحزب الاشتراكي الذي حكم دولة الجنوب قبل الوحدة، وهو الحزب الأضعف حضوراً وشكيمة كما اثبت تاريخه بعد انتكاسة الوحدة، ولن يطلع من القسمة السالفة سوى بفتات المائدة. تلك الأحزاب والقوى والمليشيات ستتلفع تحت «لوغو» جنوبي يشارك في إعادة وتوزيع أوراق اللعب نفسها.

  كما لا يغيب بُعد آخر لهذا التماثل والتعاون السالف شرحه، وهو إعطاء الصراع عنواناً رائجاً، وهو الصراع المذهبي السني الشيعي والذي تعصف ريحه بالمنطقة العربية كلها ويشب هشيم ناره. الخلاصة أن الجنوب سيسلم الى المليشيات القاعدية، وليس ببعيد ظهور نسخ من المليشيات «الداعشية» والأحزاب والتيارات الدينية السنية، أو يجب أن تبدو «سنية»، والقوى التقليدية، حزبية كانت أو قبلية. وربما يزج في اللعبة برؤوس أموال ورجالات مال وتجارة ورجال دين ومكونات وحركات ثورية، ليضفي على المآل ما يبدو توحداً وتكاتفاً يشمل كل القوى السياسية والمجتمعية في الجنوب، في طي سيناريو تواطؤ إجرامي هو الأبشع منذ حجر الأساس لبشاعة سابقة، كما أطلق عليها شاعر اليمن عبدالله البردوني، المتمثلة في مشروع وحدة تحول إلى إعلان كارثي قضى على الأرض والدولة الجنوبية، وقبلها مزق الإنسان وأصاب كيانه في مقتل.

*نقلاً عن صحيفة الحياة

رابط: http://alhayat.com/Opinion/Writers/7714911