أرشيفات الوسوم: طهران

إنه حقا عالم عربي جديد !

فهمي هويدي

مشروع القوة العسكرية العربية المطروح هذه الأيام جزء من التحوّلات الاستراتيجية الخطيرة في المنطقة، فضلاً عن أنه يطرح من الأسئلة أكثر مما يقدّم من إجابات.

عالم عربي جديد

(1)

عندي ثلاث ملاحظات أمهّد بها لمناقشة هذا المنطوق، هي:

ـ إن القوة العسكرية مهمة لا ريب، لكن القوة السياسية هي الأهم. ولا وجه للمقارنة بين مَن يستقوون بسلاحهم والذين يستقوون بشعوبهم. وشواهد الفشل التاريخي للأولين ماثلة تحت أعيننا، ولنا في تجربة الاتحاد السوفياتي وكوريا الشمالية عبرة. والمشكلات أو الأزمات التي نواجهها في العالم العربي لم تنشأ لأننا ضعفاء عسكرياً. ولكن مصدرها الأساسي أننا ضعفاء وفاشلون سياسياً واقتصادياً. ليس لأننا بلا عضلات، ولكن لأن الجسم العربي صار منزوع العافية.

ـ إن العمل العربي المشترك لم يؤخذ على محمل الجد يوماً ما إلا في مجال واحد، هو «الأمن»، فمجلس الوحدة الاقتصادية مثلاً تشكل في العام 1957. ومشروع السوق العربية المشتركة تم توقيعه منذ العام 1964 (في العام الماضي تم الاحتفال بمرور خمسين عاماً على توقيع الاتفاقية الخاصة به، ولم يكن الاحتفال بإنجازات تحققت على ذلك الصعيد، ولكنه كان أقرب إلى الاحتفال بذكرى عزيز فقدناه). وفي حين أننا لم نرَ أثراً للتكامل الاقتصادي المنشود أو السوق العربية المشتركة، فإن مجلس وزراء الداخلية العرب الذي ولد في العام 1977، وحده الذي جرى تفعيله وتنشيطه حتى عقد اجتماعه الثاني والثلاثين في الجزائر في شهر آذار الماضي. ولا تفســــير لذلك التباين سوى أن ما خصّ مصــــالح الشعوب العربية في التنمية والتكامل لم يلق عناية تذكر، في حين أن ما خصّ أمن الأنظمة قطع أشواطاً وجرى فيه التنسيق والتكامل إلى حد بعيد.

ـ إن اتفاقية الدفاع المشترك التي وقعت العام 1950 وكانت من أصداء حرب فلسطين العام 1948 جرى تجميدها في حقيقة الأمر، حيث لم تشكل المؤسسات الدفاعية التي دعت إليها الاتفاقية (اللجنة العسكرية التي تضم رؤساء الأركان ومجلس الدفاع المشترك الذي يضم وزراء الدفاع والخارجية). ومع ذلك، فإن فكرة التعاون العسكري التي كان لمصر خبرتها فيها برزت إلى الوجود منذ ستينيات القرن الماضي. وظهر ذلك جلياً في نجاح قوات السلام العربية العام 1961 في ردع الرئيس العراقي آنذاك عبدالكريم قاسم حين هدد بغزو الكويت، وفي مشاركة القوات العربية العام 1973 في إخراج إسرائيل من سيناء وقسم من الجولان، وفي قوات الردع العربية التي عملت على إعادة السلام إلى لبنان العام 1976، إلا أن ذلك التفاعل كان من أصداء بيئة مغايرة تماماً عن تلك التي يمر بها العالم العربي الآن.

على الأقل، فقد كان هناك التفاف حول عناوين القومية العربية والأمن القومي العربي والوحدة العربية. وكان مسلماً به ان قضية فلسطين هي القضية المركزية الأولى في العالم العربي. وهي العناوين والمعاني التي فقدت رنينها وتراجعت أولوياتها في الوقت الراهن، وهو ما يسوّغ لنا أن تقول إننا الآن أصبحنا بإزاء عالم عربي مختلف تماماً في نسيجه وقيمه وأفكاره عن عالم ستينيات القرن الماضي وسبعينياته.

(2)

لقد استفزني ما نشرته صحيفة «هآرتس» (عدد 30 آذار) للكاتب «زفاى باريل» عن الاحتشاد العسكري الذي يحدث في العالم العربي. إذ قال إن هناك تعبئة تلفت النظر لتشكيل قوة عسكرية عربية لأول مرة، وهو حدث مهم، لو أنه وقع في ظروف أخرى لسبب ازعاجاً وقلقاً لإسرائيل. وهو ما لم يحدث. ذلك أن إسرائيل لم تستشعر قلقاً فحسب، وإنما انتابها شعور هو خليط من السرور والنشوة. أضاف الرجل في هذا الصدد قوله إن إسرائيل لم تدعَ إلى الانضمام إلى التحالف (الذي تصدّى للحوثيين في اليمن وشنّ غارات عليهم)، ولكنها تقف إلى جانبه في المربع ذاته الذي يقف فيه. عبر عن المعنى ذاته البروفيسور «ايال زيسر» حين وصف الحدث في مقالة نشرتها صحيفة «إسرائيل اليوم» (عدد أول نيسان) بأنه «بشرى منعشة»، وفي اليوم نفسه، علق «باتريك غودنوغ» على قرار إنشاء القوة العسكرية في صحيفة «جويش برس» (التي تصدر بالولايات المتحدة) بقوله إن الاتفاقية التي وقعت للاحتشاد ضد إسرائيل قبل 65 عاماً (يقصد الدفاع المشترك) جرى إحياؤها الآن للتصدي لإيران والشيعة، كما أضاف أن الأنظمة العربية «السُّنية» التي وقفت ضد «الربيع العربي» هي التي تقود الحرب ضد النفوذ الشيعي في الجزيرة العربية.

هكذا، فإنه على العكس مما هو مخزون ومستقر في الإدراك العربي منذ نحو سبعة عقود، فإن دعوة مصر إلى تشكيل قوة عسكرية عربية وتبني القمة العربية في شرم الشيخ للفكرة لم يعد مقلقاً لإسرائيل، وانما أصبح مصدر بهجة وحفاوة في أوساطها السياسية والإعلامية. وذلك راجع لسببين أساسيين، أولهما أن العرب ما عادوا مشغولين بقضية فلسطين، لأن الثقافة السياسية في المرحلة الراهنة اتجهت لاعتبار العدو هو إيران وليس إسرائيل. أما السبب الثاني فهو أن الصراع الذي بات شاغلاً للعقل السياسي والإعلامي العربي انصرف إلى تصفية حسابات ومرارات السنة إزاء الشيعة، ومن ثم اكتسب الصراع بعداً مذهبياً وليس سياسياً. الأمر الذي يتجاوز حدوده العالم العربي إلى أطراف العالم الإسلامي، فضلاً عن ان الانخراط فيه يستدرج العرب إلى حروب ومواجهات تستمر عقوداً في المستقبل، ولم تحسمها الصراعات التي شهدتها القرون الخوالي. وذلك أكثر ما يطمئن إسرائيل ويشيع فيها البهجة والسرور.

(3)

ما سبق يسلط الضوء على جانب من التحولات الاستراتيجية المهمة التي تشهدها المنطقة العربية الآن، والتي تنقلنا إلى عصر جديد. إن شئت فقل انها بعض ملامح الشرق الأوسط الجديد الذي كثر الحديث عنه خلال السنوات الأخيرة. إذ تواترت في ظلها دلائل تراجع أولوية القضية الفلسطينية وتحول «بوصلة» العداء من إسرائيل إلى إيران. وانتقال المنطقة من الصراع السياسي إلى طور الصراع المذهبي. ثمة شهادة تعزز ذلك الادعاء أوردها محمد المنشاوي، خبير الشؤون الأميركية ومدير مكتب «الشروق» في واشنطن الذي تحدث في تقرير أخير له عن الاتجاه لتغيير العقيدة العسكرية للقوات المسلحة المصرية التي لم تعرف عدواً لمصر والأمة العربية طوال العقود الماضية سوى إسرائيل، وهو الموضوع الذي ظل محل شد وجذب خلال تلك الفترة.

إلا أنه في ظل المستجدات التي طرأت وفي ظلها لم يعد كثيرون يتحدثون عن إسرائيل العدو، فإن ذلك اعتبر نجاحاً تمنّته الإدارات الأميركية المتعاقبة. وانعكس ذلك على آفاق المساعدات العسكرية التي تقدمها واشنطن لمصر. حيث حرصت على أن تقتصر أهداف التسليح الأميركي لجيش مصر على دعم قدرته في أربعة مجالات أساسية، هي: مكافحة الإرهاب، وحماية الحدود والأمن البحري وأمن سيناء. في هذا السياق، فإنه نقل عن الخبير الأميركي انتوني كوردسمان من «مركز الدراســــات الدولية الاستراتيجــــــية» تعليقاً على استئناف المساعدات العسكرية لمصر قوله إن «الأسلحة الأميركية لمصر لا يمكـــن استعمالها إلا في المواجهات العسكرية التي تدعمهـا أميركا».

إضافة إلى ما سبق، ثمة ملامح أخرى للشرق الأوسط الجديد الذي يتشكل الآن نلمح فيه تغيراً في موازين القوى يتعذّر تجاهله ـ إذ إلى جانب تعاظم الدور الإيراني الذي تجاوزت مؤشراته حدود الدور التركي، فإن تلك الموازين اختلفت في العالم العربي على نحو رجحت فيه كثيراً كفة الدول الخليجية وهبطت فيه أسهم الدول الأخرى، المشرقية منها بوجه أخصّ، المثقلة بصراعاتها السياسية وأعبائها الاقتصادية. وهو ما برز بوضوح في قمة شرم الشيخ الأخيرة، ذلك أنها قمة خليجية بأكثر منها عربية. وفكرة القوة العربية إذا كانت اقتراحاً مصرياً بالأساس لأسباب تتعلق بالتعامل المصري مع الأزمة الليبية، إلا أن السعودية هي التي حوّلته من اقتراح مصري إلى قرار للقمة العربية لتغطية موقفها وتدخلها العسكري في اليمن.

وقد فرضته على الأرض، حين شنت غاراتها على اليمن في وقت سابق على انعقاد القمة، قبل ان تفرضه على جلسات مؤتمر شرم الشيخ وجدول أعماله. وبهذه الخطوة، فإن السعودية بنفوذها السياسي والاقتصادي عبأت العالم العربي لمصلحة قرارها حسم الصراع في اليمن عسكرياً. وكان ذلك بمثابة إعلان عن انتقال العالم العربي من المرحلة القومية إلى المرحلة الخليجية، وبالتالي إلحاق الجامعة العربية بمجلس التعاون الخليجي.

(4)

سبق أن تحدثت عن تدهور الوضع في اليمن، وعن العوامل التي أسهمت في ذلك بدءاً بأطماع وانتهازية الرئيس السابق علي عبدالله صالح وانتهاء بحماقات الحوثيين وطموحاتهم الغامضة ومروراً بأخطاء السياسة الإيرانية التي ارتد بعضها على إيران ذاتها.

وهي العوامل التي أصابت السعودية بصدمة دفعتها للمسارعة إلى المغامرة باللجوء إلى الحسم العسكري والإصرار على المضي في ذلك الطريق الذي لا تعرف له نهاية.

استيلاء الحوثيين على صنعاء ومحاولتهم السيطرة على اليمن اعتبر تهديداً لأمن السعودية، ودخولهم إلى عدن واقترابهم من باب المندب قدّم باعتباره تهديداً للممر المائي الدولي وللأمن العربي، واعتــــبرت القوة العسكرية العربية صيـــغة التعامل مع التهديد الذي تعرضت له الســــعودية، والتهديد الآخر الذي تعرض له الممر الدولي، الذي قيل إن من شأنه تعطيل قناة السويس وميـــناء دبي.

هـــذا التشخيص يفتقد إلى الدقــــة من ناحيــــة، كما انه يتسم بالغموض من ناحية أخرى، كيف؟

ذلك ان ذريعة تهديد باب المندب بما يستصحبه ذلك من تأثيرات موجهة على قناة السويس وميناء دبي، لا تصمد أمام حقائق الواقع. ليس فقط لأن الحوثيين (ولا أستبعد أن يكون من الإيرانيين) أعلنوا عن ان الوضع في باب المندب لن يمس (تصريح محمد عبدالسلام المتحدث باسم الحوثيين الذي بثته وكالة الأنباء اليمنية في 4/4)، ولكن لأن باب المندب كما مضيق هرمز تؤمنه وتحرسه قوات مرابطة على مشارفه في جيبوتي ومياه المحيط قوات أميركية وفرنســــية وروسية وإيطالية ويابانية وصينية، وهذه قوامها نحو سبعة آلاف جندي، مدعومون بالطائرات والبوارج والصواريخ بعيدة المدى (أميركا وحدها لها 4200 جندي وفرنسا 1900 جندي).

من ناحية ثانية، فإن القوة العسكرية العربية لا يُعرف الهدف منها بالضبط. أعني هل سنحارب إلى جانب ضد آخر، أم أنها ستحرس اتفاق المتحاربين، وهل ستسهم في رد العدوان الخارجي أم أنها ستجهض الاضطرابات الداخلية، وما هي الجهة التي ستتولى قيادتها وكيف ستتخذ قراراتها، وهل سيكون مجال حركتها في العالم العربي بأسره أم في دول من دون أخرى، وهل صحيح أن جنودها سيكونون من أبناء الدول الفقيرة وأن الدول النفطية هي التي ستتولى تمويلها؟… إلى غير ذلك من الأسئلة الحائرة التي تتوالد كل حين، في غيبة وضوح الرؤية وغموض الهدف.

بسبب من ذلك، فإنني لا أخفي شعوراً بالتوجس والقلق إزاء ذلك الغموض، الأمر الذي يشككني في إمكانية ظهور المشروع إلى النور خلال الأشهر الأربعة التي حددت لذلك، إلا أن أسوأ وأخطر ما في الأمر أننا صرنا نفكر كثيراً في كيفية دحر خصومنا المحليين بأكثر مما نفكر في التصدي لأعدائنا التاريخيين. ليس ذلك فحسب وإنما صرنا نحتكم إلى السلاح في مواجهة أهلنا في الداخل ونمارس السياسة مع عدونا في الخارج.

 المصدر | الشروق الجديد

عبد الملك نصرالله

*حسام كنفاني

من بين الأحداث الكثيرة التي تعصف باليمن، من الصعود الحوثي الغامض إلى الاستيلاء على مقدرات الدولة، وفي النهاية، تنفيذ الانقلاب مكتمل المعالم، هناك نقطة لافتة جداً في المشهد، لم يتم التوقف عندها كثيراً في تحليل سياقات الأمور، هي مدى التشابه، إلى حد التطابق بين التطور الحوثي والوضع الحالي لحزب الله اللبناني، ما يؤكد أن الاثنين تلميذان نجيبان للمدرسة الإيرانية نفسها. متابعة قراءة عبد الملك نصرالله

من يسقط أولاً الحوثيون أم… اليمن؟

*جورج سمعان

ResizeImageHandler
«الإعلان الدستوري» في صنعاء كرس انقلاب الحوثيين. باتوا في صدارة الصورة والمسؤولية. لم تعد هناك سلطة أو مؤسسات أو أحزاب وقوى سياسية يتذرعون بها ويحملونها مسؤولية إدارة البلاد.

عبدالملك الحوثي وجماعته مسؤولون اليوم عن توفير الأمن لمواطنيهم، وتأمين رغيف الخبز والوظيفة وحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، والأهم من ذلك أن عليهم التعامل مع دول الجوار والمجتمع الدولي، وكلاهما طرفان دانا الانقلاب ويسعيان إلى وضع حد له ولتداعياته الداخلية والخارجية. كان جل ما يطمح إليه الحوثيون في العقد الماضي هو إشراكهم في السلطة، إلى أن كانت لهم السلطة كلها. لم يقيموا اعتباراً لمقررات الحوار، وقبل ذلك حملوا على المبادرة الخليجية، ولم تردعهم قرارات مجلس الأمن وعقوباته. ولم ينصتوا لمواقف الدول التي دعمت مؤتمر الحوار والمرحلة الانتقالية.

وباتوا اليوم أمام امتحان إدارة الدولة. فهل لديهم التجربة والمشروع والخبرة، أم إنهم سيعولون على قوى ستواليهم بالتأكيد في عز اندفاعتهم هذه لعلها تحقق مكاسب وتحافظ على مواقع.

الانقلاب كان نتيجة طبيعية ومتوقعة. كل المواقف التي واكبت الحراك اليمني والمبادرة الخليجية، ورعت مؤتمر الحوار والمرحلة الانتقالية كانت دون المطلوب، أو على الأقل متأخرة. لم تكن على مستوى التحدي الذي شكله موقف الحوثيين الرافض دور مجلس التعاون، ثم تحالفهم مع «ماكينة» الرئيس السابق وحزبه المؤتمر الشعبي. نجح اليمنيون بأحزابهم وقواهم الإسلامية والاشتراكية والناصرية والليـــبرالية في منع سقوط البلاد في الفوضى والحرب الأهلية والعشائرية والجهوية، مع اندلاع الحراك في شباط (فبراير) 2011. لكن هذا «الخليط» العجيب من القوى لم يسع إلى التغيير الذي نشده الشباب، بقدر ما اهتم بإعادة إنتاج نظام يعيد توزيع الحصص ويشرك مزيداً من القوى في مفاصل الحكم. وهذا ما ترجم سريعاً صراعاً مفتوحاً بين القوى السياسية والعشائرية والعسكرية، التي كانت تتقاسم مجتمعة كل شيء، طوال ثلاثة عقود، وانتهى الأمر ببقاء هذه القوة شريكة أساسية في الصيغة التي أعقبت رحيل الرئيس السابق الذي لم يرحل فعلياً. ظل طاقمه في كل مفاصل الحكم ومؤسساته الدستورية والعسكرية والأمنية، وهو ما سهل له وضع العصي في طريق الحوار، ثم الانقلاب على مخرجاته بتسهيله انقلاب الحوثيين ومساعدتهم في تقدمهم نحو إسقاط الدولة، وهو يجد نفسه اليوم في سلة واحدة مع الذين حيدهم عبدالملك الحوثي جميعهم. فقد رفض المؤتمر الشعبي «الإعلان الدستوري» وعدّه انقلاباً على الدستور.

كانت المواقف الإقليمية والدولية التي رعت المرحلة الانتقالية في اليمن من دون الحسم المطلوب لوقف الانقلاب الذي بدأ من سقوط عمران وتقهقر الجيش، ثم دخول الحوثيين العاصمة والسيطرة على المؤسسات والمواقع العسكرية في أيلول (سبتمبر) الماضي؛ لذلك لن تنفع اليوم بيانات التنديد بالانقلاب. والذين ينتظرون موقفاً حاسماً من المجتمع الدولي أو مجلس الأمن قد ينتظرون طويلاً. روسيا لن تكون مهتمة بإزعاج طهران بموقف مناهض للتغيير الذي وقع في صنعاء، والولايات المتحدة لم تتخذ منذ البداية مواقف حاسمة لضبط حركة الحوثيين وإيقاف التقدم الإيراني نحو اليمن، وهو الموقف نفسه الذي تلتزمه حيال الجمهورية الإسلامية في العراق وسوريا. لا تريد فتح أي ثغرة جانبية قد تعوق المحادثات الخاصة بالملف النووي. بخلاف ذلك، ترى إيران أن ما حدث في جنوب شبه الجزيرة العربية تعزيز لمواقعها الإقليمية، وورقة إضافية لمواجهة الضغوط والمطالب التي ترفعها الدول الخمس الكبرى وألمانيا لوقف البرنامج النووي. وموقع متقدم في المواجهة مع المملكة العربية السعودية.

أبعد من ذلك، لا تملك الولايات المتحدة نفوذاً فاعلاً في صنعاء. ومع اندلاع الحراك قبل أربع سنوات، تركت الأمر لمجلس التعاون. ودعمت مبادرة لمنع انهيار اليمن وتشظيه. ولم يبخل الخليجيون في تقديم المساعدات إلى جارهم الجنوبي، ولم يكن هذا الموقف طارئاً، إنما جاء في سياق سياسة قديمة، لم يتجاهل أهل المجلس واقع جيرانهم والفقر الذي يعانون، كانوا على الدوام عوناً لهم، منذ قيام هذه المنظومة الإقليمية، وكثيراً ما طرحوا مشروع ضم هذه الدولة إلى منظومتهم لجملة من الأسباب والاعتبارات في مقدمها: منع قيام حزام فقر يزنر حدود مجلس التعاون ويهدد أمن دوله واستقرارها؛ لذلك لا يتوقع أن تتدخل واشنطن بفاعلية لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، أي إلى ما قبل الانقلاب الأخير. تأخر الجميع بمن فيهم الأمم المتحدة ومبعوثها جمال بن عمر الذي لن يفيده حرصه ودعواته الى مواصلة الحوار، فضلاً عن أن الحوثيين، وإن وضعهم بعض الخليج على لائحة الإرهاب، لا يشكلون خطراً داهماً على المصالح الأمريكية والغربية عموماً، كما هي حال «القاعدة» و «الدولة الإسلامية». سيدفع الجميع بالكرة مجدداً إلى ملعب مجلس التعاون. ولن يجد هذا مفراً من الانخراط في الأزمة، أولاً لمنع انزلاق اليمن في طريق التشظي والانقسام ثانية بين جنوب وشمال ووسط ضائع، وثانياً للحفاظ على المصالح الاستراتيجية الخليجية في شبه الجزيرة كلها وبواباتها وممراتها البحرية والبرية.
تبدو العودة إلى الحوار صعبة إن لم تكن مستحيلة. فماذا يمكن للقوى والأحزاب أن تنتزع من الحوثيين بعد إمساكهم بالسلطة، وكانت عجزت عن ذلك قبل انقلابهم؟ وماذا تملك من أوراق القوة لفرض رأيها على طرف مدجج بالسلاح؟ لقد فشلت في السابق في إدارة المرحلة الانتقالية وتنفيذ مخرجات الحوار. وعجزت عن الوقوف في وجه تغول «أنصار الله». لن يكون أمامها سوى الرهان على عامل الوقت. أي الرهان على الأوضاع الاقتصادية من جهة، وعلى عودة الحراك الشبابي إلى الساحات والشوارع، فضلاً عن ضغوط محافظات الشرق والجنوب التي رفضت سلطاتها الإدارية والعسكرية ومعظم قواها «الإعلان الدستوري» الحوثي. يستطيع عبدالملك الحوثي أن يتباهى بقوته، وتستطيع إيران أن تتباهى بسقوط نصف اليمن بيدها. لكن السؤال الملح غداً وفي المدى العاجل: هل تستطيع أن تتحمل الكلفة المالية لضمها اليمن إلى خريطة نفوذها؟

يرى الخبراء أن اليمن يحتاج إلى نحو 12 بليون دولار لمعالجة مشاكله الاقتصادية التي تفاقمت في الأشهر الأخيرة على وقع «الزحف الحوثي»؛ فالبطالة ارتفعت من 36 في المئة إلى 60 في المئة. فضلاً عن أن الموانئ والمواقع التي باتت تحت سيطرة الحوثيين ماتت فيها الحركة، كما أن الحقول النفطية لا تزال بعيدة عن سيطرة الانقلابيين، ولا يمكنهم تالياً الإفادة من القليل الذي تمد به الخزينة. ولا شك في أن دول الخليج توسلت بالمساعدات المالية ممارسة نفوذها في هذا البلد والتسويق لمبادرتها، وهي اليوم لن تتردد في وقف أشكال الدعم كلها للسلطة الجديدة في صنعاء، بل قد تلجأ إلى فرض حصار قاسٍ عليها، وهي تدرك جيداً أن مثل هذا السلاح قد يكون الأكثر إيلاماً وفاعلية. وسيجد الحوثيون قريباً أنفسهم أمام مشكلات اقتصادية واجتماعية معقدة، قد تدفع الشارع إلى ثورة جياع فضلاً عن ثورة الشباب الذين لم تثمر ثورتهم الأولى طوال أربع سنوات. وهنا لا شيء مضمون ألا يواجه «أنصار الله» خصومهم بالقمع والمطاردة وحتى الاعتقالات لترسيخ حكمهم، ويمكنهم أن يبتزوا خصومهم بوقف دفع الرواتب والمستحقات للمحافظات كلها الرافضة السلطة الجديدة.

بات اليمن جزءاً من الخريطة السياسية والأمنية الإيرانية في المنطقة، وستكشف الأيام المقبلة أنه في ركاب ليبيا وسوريا والعراق التي تبحث مكوناتها، بلا جدوى حتى الآن، عن صيغة جديدة للبقاء تحت سقف واحد، وإلا فلا مفر من الانسلاخ وتغيير الخرائط بالحديد والنار وكثير من الدم. فهل يخطو اليمن أولاً نحو التشظي، أم يسقط الحوثيون في مواجهة اصطفاف الداخل والخارج؟

 

(نقلاً عن صحيفة الحياة اللندنية)

http://alhayat.com/Edition/Print/7282442/%D9%85%D9%86-%D9%8A%D8%B3%D9%82%D8%B7-%D8%A3%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%8B-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%88%D8%AB%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%A3%D9%85—-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%86%D8%9F

ما هي ابرز توجهات العاهل السعودي الجديد تجاه القضايا العربية؟ وما مدى صحة ابتعاده عن الرئيس السيسي وتقربه من “الاخوان المسلمين”؟ وماذا عن الملفين السوري والعراقي.. والعلاقة مع “حماس″؟ وهل انهار التحالف مع الامارات؟

*عبد الباري عطوان

عطوان

تتجه كل الانظار هذه الايام باتجاه الرياض، والعاهل السعودي الجديد الملك سلمان بن عبد العزيز لمعرفة خطواته المقبلة، وطبيعة تحالفاته الخليجية والاقليمية المتوقعة، بعد ان ثبت اركان عرشه، وكرس رجاله في المفاصل الهامة في الدولة من خلال اصدار 34 مرسوما دفعة واحدة.

الملك سلمان بن عبد العزيز قال خلال ترؤسه مجلس الوزراء للمرة الاولى بعد توليه العرش يوم (الاثنين) “ان بلاده مدركة مسوؤلياتها الجسام” و”لن تحيد عن السير في النهج نفسه الذي سنه الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، وسار عليه من بعده ابناؤه الملوك” ونقل الدكتور عادل الطريفي وزير الاعلام الجديد عن الملك السعودي قوله “ان توجهات وسياسات المملكة على الساحات العربية والاسلامية والدولية نهج متواصل ومستمر، واضاف “نحن عازمون على مواصلة العمل الجاد والدؤوب من اجل خدمة الاسلام وتحقيق الخير لشعبنا العربي النبيل ودعم القضايا العربية والاسلامية، والاسهام في ترسيخ الامن والسلم الدوليين والنمو الاقتصادي العالمي”.

131209-D-BW835-554

كلام جميل، ولكنه مغرق في عموميته، ولا يمكن الخروج منه، بعد قراءته اكثر من مرة، بأي ملمح من ملامح السياسة الخارجية او الداخلية للعهد السعودي الجديد، فدعم القضايا العربية والاسلامية جملة فضفاضة، فأي من هذه القضايا التي سيدعمها العهد الجديد على سبيل المثال؟ فهل القضايا السورية والعراقية والفلسطينية والليبية والمصرية من بينها، وكيف سيكون هذا الدعم، وضمن اي محور في هذه القضايا مثلا؟

بمعنى آخر هل سيتم دعم المعارضة السورية بالمال والسلاح، مثلما كان عليه حال الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز والاستمرار في سياسة اسقاط النظام السوري، ام سيتم الانسحاب من هذه السياسة بعد تغير الاولويات ووضع محاربة “الدولة الاسلامية” على قمتها، وهل سيتم دعم المقاومة الاسلامية في الارض الفلسطينية المحتلة، ام ستستمر القطيعة مع حركة “حماس″، وتوثيق العلاقة مع السلطة فاقدة الشعبية في المقابل؟ (الملك سلمان تولى رئاسة اللجنة السعودية لدعم الشعب الفلسطيني لاكثر من اربعة عقود واعتقد انه ما زال في المنصب)، وبالنسبة الى مصر هل  سيواصل العاهل الجديد الدعم المفتوح والمطلق لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، ومواصلة الحرب على تنظيم الاخوان المسلمين في كل بقاع الارض، وليس في مصر وحدها، ام سيلجأ الى ترميم الجسور مع هذه الحركة؟ وماذا عن ايران “الشيعية” وتركيا “السنية” ومع اي من هاتين القوتين الاقليميتين العظميين سيتقارب العهد السعودي الجديد، وكيف، ووفق اي معايير؟ والاسئلة كثيرة في هذا المضمار، وتحتاج الى اجابات عاجلة، وربما بالسرعة نفسها التي تمت من خلالها عملية ترتيب البيت السعودي الداخلي.

***

وعندما نقول ان الانظار مركزة حاليا على الرياض، فان هذا التركيز مشروع ومبرر لاهمية هذه العاصمة وحاكمها، ودورها المؤثر في السياسات الاقليمية والدولية، ولم يكن غريبا ان هناك من يقف محللا ومتكهنا لكل خطوة وكل اشارة وكل تصريح.

توقف الكثيرون، على سبيل المثال، عند غياب الشيخين القويين في دولة الامارات العربية المتحدة اي محمد بن راشد (حاكم دبي) ومحمد بن زايد (ولي عهد ابوظبي) عن جنازة العاهل السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز، مثلما توقفوا ايضا عند غياب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وذهب البعض الى درجة القول بأن الحلف السعودي الاماراتي المصري الذي تبلور، وبلغ ذروة قوته في عهد الملك الراحل بدأ يتفكك، ان لم يكن قد انهار فعلا، ولعب الاعلام القطري، او المحسوب على الدوحة، على وجه الخصوص، دورا كبيرا في “فصفصة” هذه المسألة واستنتاج النتائج السابقة، اي ضعف او انهيار هذا التحالف الذي غير خريطة مجلس التعاون الخليجي الداخلية والخارجية معا.

نقطة اخرى جرى رصدها وهي تقديم الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية المقربة من الاخوان المسلمين، ان لم تكن تابعة لها، واجبات العزاء للعاهل السعودي الجديد، فهناك من رأى في هذه الخطوة تغييرا في سياسة المملكة تجاه حركة الاخوان التي وصلت الى حد القطيعة الكاملة، وهناك من ذهب الى ما هو ابعد من ذلك، وتحدث عن علاقات الملك سلمان الوثيقة مع المؤسسة الدينية الرسمية، وابتعاده عن الليبراليين السعوديين والعرب، ورغبته في انهاء ارث الملك الراحل في “تهميش” التيار الاسلامي المحافظ والاقتراب من الليبراليين، وربما يكون هذا التفسير صحيحا، ولكن ما علمنا به ان الشيخ راشد الغنوشي طلب من السلطات السعودية الحضور لتقديم واجب العزاء وتهنئة الملك الجديد وفي نيته فتح صفحة جديدة، وهو الذي ابعد من مطار جدة مرتين، وبملابس الاحرام، بسبب غضب السلطات السعودية عليه لاخوانيته اولا، ولقائه بالشيخ سعود الهاشمي قبل اعتقاله ثانيا، فجاء الرد، اي للشيخ الغنوشي، بالترحيب والاذن بالحضور، ولا ننسى ان الشيخ الغنوشي وحركة النهضة التي يتزعمها، والحكومة التي انبثقت عنها في بداية الثورة التونسية عارضت بقوة استضافة السعودية للرئيس التونسي الاسبق زين العابدين بن علي وطالبت بتسليمه.

لا نعرف الاسباب التي دفعت بالمسؤولين الاماراتيين للتغيب عن تقديم واجبات العزاء في الملك الراحل، والاكتفاء بارسال شيوخ من امارات اصغر حجما وثراء، فالامارات تلتزم الصمت، ومن يؤمنون بنظرية “الازمة” اعتمدوا في تحليلهم على انهيار التحالف على موقع اماراتي يرأسه اعلامي مخضرم يعمل في ديوان رئيس الدولة انتقد تعيين الامير القوي محمد بن نايف وزير الداخلية، وليا لولي العهد ورئيسا لمجلس الامن والسياسة الذي يضم وزارات الدولة الامنية والسياسية “الخارجية” و”الدفاع″ و”الداخلية” و”الاعلام” و”الحج”، والايحاء بأن العلاقات بين الشيخ محمد بن زايد والامير محمد بن نايف متوترة، وان الاول كان على علاقة وثيقة مع الاميرين بندر بن سلطان ومتعب ابن عبد الله نجل العاهل الراحل، علاوة على خالد التويجري رئيس ديوان الملك الراحل الذي ابعد بأول مرسوم يصدره العاهل الجديد.

واذا افترضنا ان كل هذه التكهنات صحيحة، او تنطوي على الكثير من الصحة، وربما يكون الحال كذلك، فشيوخ الخليج ملوك التكتم وكل تسريبة لهم للاعلام توزن بميزان من الذهب الابيض، فان السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو عن مدى صحة “فرضية” توتر العلاقة او “برودها” بين مصر الرئيس عبد الفتاح السيسي والعاهل السعودي الجديد؟

                                                                           ***

لم يصدر حتى الآن من مصر ومسؤوليها اي موقف او مؤشر يؤكد على تدهور العلاقات، باستثناء تغيب الرئيس السيسي عن مراسم العزاء الذي قيل انه جاء بسبب الثلوج التي حالت دون اقلاع طائرته فورا من منتجع دافوس الاقتصادي الذي كان يشارك فيه.

المملكة العربية السعودية استثمرت اكثر من 15 مليار دولار لدعم النظام المصري الجديد الذي جاء بعد انقلاب عسكري على الرئيس المنتخب محمد مرسي، وبنت كل سياساتها الاستراتيجية على اساس التحالف مع هذا النظام بما في ذلك “تجميد” العلاقات مع تركيا والضغط على قطر بلجم “الجزيرة”، وابعاد قادة الاخوان المقيمين في الدوحة، وتصعيدها مع ايران والعراق وسورية، فهل نحن امام تغيير جذري لهذه العلاقة الاستراتيجية من قبل العهد السعودي الجديد؟

من الصعب الاجابة بشكل قاطع على هذا السؤال وغيره، فما زالت اوراق لعب الملك سلمان قريبة جدا الى صدره، ومن الصعب رؤية اي منها، الامر الذي فتح المجال واسعا امام التكهنات من قبل جهات عديدة.

الامر المؤكد ان هناك مجالا واسعا لاحتمالات التغيير، فقد جرت العادة ان يغير ملوك السعودية سياساتهم وخيولهم عندما يتولون العرش، والملك سلمان بن عبد العزيز لن يكون استثناء.

الشيء الوحيد الذي يبدو اكثر وضوحا اننا نقف على اعتاب حرب اعلامية ساخنة تتناطح فيها امبراطوريات اعلامية ضخمة خليجية في معظمها مسلحة بمليارات الدولارات واطقم حرفية عالية الخبرة والمؤهلات، وما علينا الا الانتظار، وهذا “التناطح” سيكون انعكاسا لسياسات جديدة ليس على الصعيد السعودي فقط، وانما معظم الدول الاعضاء في مجلس التعاون، فمرحلة “الجمود” وكنس الخلافات تحت السجادة، يبدو انها تقترب من نهايتها بوفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي كان يوصف بكبير العائلة، او شيخ القبيلة الخليجية الاكبر، ويحترمه الجميع، ويقبلون بأبوته حتى وان اختلفوا مع بعض توجهاته.

*من صحيفة الرأي اليوم