أرشيفات الوسوم: دولة القانون

شبَح الحرب الأهليّة

نُفذت عملية اغتيال “صادق منصور” القيادي في الإصلاح بأثر رجعي. كانت الخطة تقتضي أن يتم الاغتيال قبل ذلك، أي قبل اغتيال الدكتور المتوكل رحمه الله بأيام. ثمة معلومات مفادها تعرض منصور لمحاولة اغتيال قبل أسابيع نجا منها.

البداية بصادق منصور، والدكتور المتوكل سيكون الهدف الثاني لتشتعل بعدها الحرب. اللعنة! من هذا الطرف الخفي الذي يسعى حثيثا لإشعال فتيل الحرب الطائفية التي نجا منه اليمنيون مراراً؛ وإلى أين كانت البلاد لتصل؟؟؟

الشهيدان

هذان القياديان، رحمة الله عليهما، من أروع ما يكون بين وسطهم الحزبي. الدكتور المتوكل همزة الوصل بين الفرقاء وحلقة السلام اللامتناهية. منصور -قبل مقتله- كان يقود مساعٍ حثيثة للَم شمل الفرقاء في تعز وتقريب وجهات النظر للتوافق على عدم السماح لأي مليشيات مُسلحة بالتواجُد على أرضها.

تغيّرت الموازين المرسومة بفشل مُحاولة اغتيال القيادي الإصلاحي صادق منصور. ومع ذلك استمرّت الخُطة لتحصُد روح الدكتور المتوكّل رحمة ربي تغشى روحه. الدكتور المتوكل، لمن لا يعرفه، شخصية اجتماعية وعاقلة مات وهو يحلُم بالدولة المدنية. سياسي مُخضرم وأستاذ جامعي تتلمذ على يده معظم السياسيين الجُدد والشباب الصاعدين.

كانت أسرة الشهيد المُتوكّل- كما عدناها- ناضجة ومُتعقّلة بل ورفضت استغلال مُصابها استغلالاً سياسياً لمصلحة طرف. عادَ الدور مُجدداً قبل أسبوع تقريباً على القيادي في حزب الإصلاح- صادق منصور. اغتيل رحمه الله بتفجير عبوة ناسفة في كرسي سيارته. ومع ذلك ابتلعها حزب الإصلاح ولم يُسارع بإلقاء التُّهم على أي طرف سياسي مُطالباً الجهات الأمنية بالقيام بواجبها في مُلاحقة الفاعلين. بمعنى آخر، ما أرادهُ الطرف الثالث والذي خطّط بعناية لهذه الاغتيالات السياسية لم يتم؛ ولن يتم. هذا الشعب المسحوق يعرفُ كيف يُقيلُ عثراته، وكيف يُطبّب جراحاته اللامُتناهية مهما كانت عميقة.

كان للخطأ في التوقيت -بعد عناية الله- دور كبير في إفشال الخُطة ما بعد الاغتيالين. في حال لم تفشل عملية الاغتيال الأولى بحق صادق منصور لكان الأمر مُختلف. ومع فشلها كان لا بد للمخططين التخلي عن الخطة نهائياً؛ لكنه الغباء المُركّب. في حال تمت عملية الاغتيال الأولى، سيكتفي حزب الإصلاح بالتنديد ولا أظنه سيُبادر بالاتهام لطرف مُحدد رُغم كونه مُستهدفاً بل وحظيَ مُنتسبوه بعمليات اقتحام للمنازل واعتداءات واسعة. سيصمُتُ الإصلاح بلا شك؛ ومن ثم سيتم تنفيذ الجزء الثاني من المسرحية باغتيال الدكتور المتوكّل. هنا ستكون الكارثة، قاصمة الظهر.

لن يسكُتَ الحوثيون، وسيُبادرون باتهام الإصلاح باعتبار العملية واضحة كانتقام سياسي لمقتل صادق منصور. سيصيحُ أهالي الشهيد المُتوكّل بعدم تمييع القضية، وعدم أحقيّة أحد في التحدّث عنهم. لكن الغضب والهيستيريا التي سيعمدُ لها مُسلحو الحوثي لن يُثنيها أحد كان؛ ولكم أن تُقدروا النتائج المُترتّبة على غضب مليشيا منهجُها السلاح. في النهاية، إنه قضاء الله ولُطفه بهذا البلد المُنهك، والذي لا يحتملُ المزيد من التمزّق. رحمة الله تغشى الشهيدين البطلين؛ ولعناتُه تُطارد القتَلة أينما حلّوا.

يا لطف الله!! إلى أين يراد لهذه البلاد أن تذهب؟؟

ولادةُ المَد

في خضم الرّكود الثّوري الذي يعيشهُ الشارع اليمني بعد الأحداث الأخيرة التي شهدتها البلاد، وُلد المدّ من رحم الشارع. “مواطن من أجل دولة”، هذا هو اسم حركة المد.

مد1

جرَت العادة أن تكونَ الدولة من أجل المواطن، لكن عندما توجد هي في البداية. الدولة غائبة، أو بالأحرى اكتشفنا فجأةً أننا بلا دولة. في الحقيقة، لم تكن الدولة موجودةٌ من قبل، لكن هذه الحقيقة بدت جلية بعد تصاعد العنف وارتفاع صوت المليشيات المُسلحة لتسيطر على الطابع العام.

في البداية، لا بد من إيجاد الدولة. من الذي سيأتي بالدولة؟ المواطن، أنا وأنت وهو وهم بالتأكيد. الدولة السّوية تحتظنُ المواطن وتهتمُ لأمره؛ لكن في غيابها وحده المواطن من يستطيع إثباتها في عملية تبادل أدوار.

في ظل الاحتقان الحِزبي والطائفي الذي يدفعُ بالأوضاع حتماً إلى السقوط في فخ الاحتراب الداخلي، كان لا بدّ من عمل مُضاد لهذه الحالة السائدة. الحاجة للتعايُش ونبذ الاحتراب على أساس الفئة والطائفة والجغرافيا هي غاية سامية لهذه الحركة. الاحتراب مُدمر، ولا يوجد فيه طرفٌ منتصر وآخرُ خاسر. الخاسر الوحيد هو الوطن.

بعد الأحداث الأخيرة وفرض واقع جديد، أصيب الشّارع بالركود، وتضائل الفعل الثوري الذي كان أحد المكتسبات الضئيلة لثورة فبراير. الفعل الثوري الاحتجاجي بدأ في 11 فبراير، ودّع فيه الشارعُ اليمني الخوف والاستكانة للقمع والإقصاء. عادت حركة مد لتنشيط الفعل الثوري وكسر حالة الجُمود والذّهول الذي يحاولُ الوضع القائم فرضُه عنوة.

بالمقابل، استياء الأوضاع بعد الثورة وتنامي العنف والمليشيات المسلحة دفعت بالبعض لتحميل الثورة وصول الوضع إلى هذا الحد. بمعنى آخر، الأخطاء الهائلة التي رافقت الفعل الثوري في الميادين، والأداء السياسي للأحزاب القائمة في التعامل مع الوضع أدّت إلى خلق هالة مقت شديدة للثورة.

إذن، لن يخرج الشارع إلا بفكر بديل. الوضع مُزرٍ وأعمال العنف تتنامى، بينما تتساقط المُدن في قبضة المليشيات المُسلحة. “لا تقف صامتاً؛ افعل شيئاً” كانت هذه إحدى شعارات حركة مد. إنها دعوة للخروج السلمي رفضاً للعنف والمليشوية والاحتراب. إنها دعوةٌ للتعايش؛ دعوةٌ للحياة. ” صمتك يغتال أمنك.. أنا وأنت” كُلنا هدفٌ لأعمال العنف.

مد

من تعز بدأ المد، ولن يتوقّف إلا بتوقّف العنف والتجييش للاقتتال الطائفي والفئوي. “مد” حركة احتجاج شعبية سلمية ليست موجّهة ضد أحد؛ هي ضد الاحتراب الأهلي وحسب. سيتوغّل المد إلى كلّ شارع، إلى كل حارة ومنزل للتوعية حول التعايُش والسلام. لا بد من صناعة جيلٍ مدني واعٍ مُتعايش، عليه نُعلّق آمالنا العريضة للنجاة.
حتماً سننجو!!

وجع التشبث

سكب جميل للصحفي اليمني: غمدان اليوسفي يسردُ المعاناة التي يعيشُها اليمنيون.. مقال جميل يستحق القراءة

179531_10151711229931988_1469478046_n

من قال إن على اليمني أن يظل متألما جراء هذا التشبث المر بالحياة!.
من الذي حكم على آماله بالأعمال الشاقة المؤبدة! 
هل على اليمني فقط أن يظل مطاردا في حدود الجيران، وفي الجبال وتحت مخيمات اللجوء.
من الذي أورثنا كل هذا النزوح بين الواقع والروح، بين الأرض والنبض، بين جحيم الرصاص والانتظارات.
كل شيء يتضاءل، إلا مساحة المخيمات.. ومساحة الأمل.
تتمدد المنافي في أرواحنا، وتنكمش الأرض علينا، لتقترب المسافة بين رصاصة وجسد.. بين قبلة خروج وعودة.
انتظاراتنا جاءت بكل شيء، إلا ما انتظرناه، جاء الحالمون بغنيمة، وتوارى الحالمون بوطن يلملم الشتات البشري والروحي..
جاء رواة الدم، واختفى رواة الحلم.
يتمدد صناع المنافي في شرايين أحلامنا، لتذوي الرصاصات فينا، وتحفر قبور انتصارها على حبنا لهذا التراب، غير أنها تدفننا فيه قبل أن نفكر في أن نجعل منه طوبة بناء.
نحاول لملمة الشتات بين مانريده ومايريده البارود، فتشعل أيادي القبح الفتيل ليحرق بعض الذي تبقى من ميراث حكمة وصفنا بها ذات يوم.
أيها القاطنون في مسامات شغفنا بالحياة، دعوا لنا ما تبقى حتى من الهزائم لنربيها على انتظار فتات الحلم بالعودة.. دعوا لنا ما تبقى من الخيبات لنسرح جدائل أمنياتها علها تفتن الأمل ذات يوم ويعود.
أيها المتشبثون بدمنا، دعوا لنا شيئا من الدمع عله يوقظ في أرواحنا نداء الموت في سبيل الحياة.. دعوا لأمهاتنا شيئا من لغة التوسل للسماء بأن يعود هذا الوطن لأهله.. امنحوا أطفالنا حتى حق البكاء على ماض سرقتم حاضره لأنكم لا تحبون مستقبلهم.
أيها المتباكون على أرواحنا، سئمنا لغتكم، وتعفنت صوركم في مدامعنا، لأنكم أبكيتمونا دما، وأذقتمونا طعم الغربة في أوطاننا، وبددتم أمل الكرامة أن تعود لمن يحتملون أنين الوطن في أوطان الغير.
تلعنكم دموع أولئك الذين يبكون في المنافي والمهاجر كلما أهانتهم يد الغريب، تلعنكم أحذية العاطلين في الأزقة، تلعنكم هذه الأرض كلما نطقتم أو صمتتم.. يكفيكم ماشربتكم من عرقنا، وما أسقيتم من دمنا تراب هذه الخرابة..
يكفيكم صبرنا عليكم.
أليس في عيونكم ولو شيئا من الدمع.. ابكوا ولو قليلا لاستعادة بعض إنسانكم الذي نسيتموه في محاجرنا نحن.. وعشتم بلا ألم.
ابكوا علكم تجدون شيئا من الآمنا، علكم تجدون ريح الوطن الذي نفتقده.

المقال من صفحة الكاتب الشخصية على فيسبوك : https://www.facebook.com/alyosifi

حزب المؤتمر ما بعد د. الإرياني!

في إحدى (قفشاته)، وصل (عارف الزوكا) مع مرافقيه لاجتياز إحدى النقاط التابعة للجيش في شبوة. كان ذلك قبل سنوات عندما كان عضواً للجنة الدائمة للمؤتمر الشعبي العام. أوقفه أفراد النقطة للتفتيش فرفض، بل وعمّر مسلحوه أسلحتهم الآلية تجاه أفراد الجيش الذين ردّوا بالمثل واحتدم التوتّر.

تدخّل أحدهم بالاتصال إلى قيادة اللواء العسكري والمُتمثلة بـ “سنهوب” ذلك الكهل الشّرس والانسان في ذات الوقت. مُقاتل مغوار، لكنه يحترم الآخرين، يدعمُ التعليم. أخبرني أحد منسبي اللواء القُدامى أن أي فرد يريد إكمال دراسته الجامعية، يمنحه اللواء التفرغ الكامل ويدعمه بكل ما أوتي من امكانيات. هذا الرجل كان مدعواً ضمن طائرة (أحمد فرج) التي راحت بمن فيها، غير أن مشيئة الله وتخلفه بسبب المرض ذلك اليوم المشؤوم أبعدوه عن تلك الكارثة المُدبرة على الأرجح.

بالعودة إلى الزوكا المُمتلئ بـ (الهنجمة) و(النخيط) الفارغيْن. اتصل أحدُهم بالقائد سنهوب الذي أمر أفراد النقطة بالسماح له بالعبور مع مسلحيه تفادياً للمواجهة والخسائر المُفترضة. في المساء، فتح مُسلحو الشيخ المُؤتمري النّار على منزل سنهوب بكثافة لإيصال رسالة.

في اليوم التّالي الذي صادف يوم الجُمعة، صلّى سنهوب الجمعة في الجامع وأخبر الأهالي عما حصل. أخبرهم أن الزوكا سيتسبب بأعمال عنف ومواجهات غير محمودة في المدينة إن هو استمر في مقامرته، ولهذا لزم عليكم إخباره بإعادة حساباته والأخذ بعين الاعتبار ما سيُلده غروره وتهرّبه من القانون.

بعد أشهر جاء القرار بإبعاد سنهوب من اللواء لينتقل إلى منطقة أخرى، في حين كوفئ الزوكا ليكون محافظاً لمحافظة مأرب القريبة لقاء ما قام به من خروق للقانون.

saleh1-20120424-205010

مؤخراً تخلّص الحزب العائلي والفئوي (المؤتمر الشعبي العام) حزب الرئيس السابق، تخلّص من الرئيس هادي والدكتور عبد الكريم الإرياني، السياسي المخضرم والداهية المشهور. من هما البديلان لهادي والإرياني يا تُرى، إنهما (عارف الزوكا، وأحمد عبيد بن دغر). وبهذا القرار يكون المؤتمر قد خسر آخر رجالاته النزيهين والدُهاة ليتحول إلى حزب فئوي للانتهازيين من المُتردية والنطيحة وما أكل السبع.

هذا هو المؤتمر الشعبي العام باختصار شديد.

اغتيال المتوكل وأزمة “الزيدية”

الكاتبة اليمنية ميساء شجاع الدين تستحضر سلسلة الاغتيالات السياسية التي حدثت نهاية القرن الماضي والأزمات التي سببتها. اغتيال الدكتور محمد عبد الملك المتوكل وتوظيفه السياسي. اقرأوا المقال كاملاً:
اغتيال المتوكل وأزمة “الزيدية”
349
*الصورة لتشييع جنازة الشهيد (صحيفة العربي الجديد)
ليس اغتيال الدكتور محمد عبد الملك المتوكل حدثاً استثنائياً في الساحة السياسية اليمنية التي طالما شهدت عمليات اغتيال لسياسيين وقيادات عسكرية، وكانت أكبر موجة اغتيالات تلك التي طالت الحزب الاشتراكي، أثناء الأزمة التي لحقت الوحدة عام 1990، وبدأت منذ 1991 واستمرت حتى 1993، وأودت بحياة أكثر من مائة كادر حزبي نشط، معظمهم من محافظاتٍ شمالية، وكانت أحد أبرز تجليات هذه الأزمة، وسبباً أساسياً لانعدام الثقة بين طرفي الوحدة وانفجار الحرب الأهلية عام 1994. ومن عمليات الاغتيال الفردية تلك التي قضى فيها الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي، جار الله عمر، في ديسمبر/كانون الأول 2002، وهو مهندس تحالف أحزاب اللقاء المشترك. وتمت الجريمة أثناء إلقاء عمر خطبة في المؤتمر العام لحزب التجمع اليمني للإصلاح، حيث تم انتقاء التوقيت والمكان بعناية، لنسف فكرة أحزاب اللقاء المشترك في مهدها.

هل تعد عملية اغتيال المتوكل فردية، بحكم الطبيعة المعتدلة للرجل، والتي تقربه من جميع أطياف الحياة السياسية اليمنية، على الرغم من خفوت نشاطه، بعد حادثة الموتورسيكل التي أصيب فيها في ديسمبر/كانون الأول 2011؟ أم أنها كانت عملية اغتيال ضمن موجة اغتيالات طالت الكوادر السياسية الزيدية المعتدلة، بعد اغتيال الشخصية السياسية الزيدية، الدكتور عبد الكريم جدبان، في نوفمبر/تشرين الثاني 2013، ثم الدكتور أحمد شرف الدين، ممثل “أنصار الله” في مؤتمر الحوار الوطني في يناير/كانون الثاني عام 2014؟

تجمع جرائم اغتيال المتوكل، وقبله شرف الدين وجدبان، أن ثلاثتهم شخصيات سياسية زيدية معتدلة، وإن اختلف المتوكل عن الآخريْن بأنه لا يمكن وصفه من مناصري جماعة الحوثي، أو أنه شخصية تمثل المذهب الزيدي. فالرجل يصعب تصنيفه سياسياً، ويمكن، تقريبياً، ومن التعريف العام للحزب الذي أسسه “اتحاد القوى الشعبية”، اعتباره شخصيةً تتبنى قيماً منفتحة وديمقراطية بمرجعية زيدية، حيث كان يحاول تفسير النصوص الدينية الإسلامية بشكلٍ يتناسب مع قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. والأهم أنه كان مقرباً من جميع التيارات السياسية، وأكثر ما يميزه حضوره الشخصي الودود والمتواضع، وكان، في الأزمة الأخيرة، مناصراً للحوثي، وبرر له أفعالاً كثيرة، وانتقد بعضها.

وتطرح عملية اغتيال المتوكل السؤال البديهي بعد كل عملية اغتيال، من القاتل؟ في كل مرةٍ، تمر حوادث الاغتيال من دون تحقيقاتٍ في اليمن، ثم بمرور الوقت، يرجح فاعل سياسي ما له مصلحة وراء الاغتيال. هذه المرة، يبدو الوضع أكثر فوضوية وأصعب بشأن الجزم عمّن يكون صاحب المصلحة في هكذا عمليات، تطال الشخصيات السياسية المعتدلة في اليمن، فمن هو صاحب مصلحة تفريغ جماعة الحوثي من أي وجوهٍ معتدلة، ومن هو صاحب مصلحة إخلاء الساحة السياسية اليمنية من أي زيدي معتدل؟

عملية اغتيال المتوكل فرصة لفتح ملف حساس، يتعلق بمشكلة المرجعية السياسية والدينية لحركة الإسلام السياسي الزيدي، والتي تصدرها الحوثي، أخيراً، وبرزت، كما هو معروف، قوة مسلحة تحتكر، كلياً، تمثيل المذهب الزيدي، فيما تفترضه تعدّياً على المناطق الزيدية، بنشر السلفية فيها، حيث ارتكب السلفيون ممارسات مستفزة فيها، مثل منع الزيود من رفع آذانهم بجملته التمييزية “حي على خير العمل”، وزيارة قبور أئمة زيدية معروفين، ونشر معاهد علمية كان يشرف عليها الإخوان المسلمون.

وكان الزيود قد بدأوا في تأسيس ما يشبه مخيماً صيفياً، يُدعى منتدى الشباب المؤمن، لتدريس أصول المذهب الزيدي بشكل مبسط في 1992، وتوسعت هذه المعاهد والمنتديات، حتى وصلت إلى ذروتها قبل حرب صعده عام 2004، ثم أغلقت نهائياً. ومن اللافت أن الحوثي لم يعد فتح تلك المعاهد في مدينة صعده، بل وضيّق على بعض تلامذتها، وبعض المراجع الزيدية التقليدية.

كانت مناهج تلك المعاهد تصدر بترخيصٍ من والد حسين وعبد الملك الحوثي، العلامة الزيدي بدر الدين الحوثي، ومن ثم تأسست الحركة الحوثية، بترديد ابنه حسين الحوثي (قتل عام 2004 في الحرب) شعار الصرخة المستلهم من شعارات الثورة الإيرانية “الموت لأميركا..”، وبسببها قامت حرب صعده. ويُذكر أن خلافاً حاداً نشب بين أسرة الحوثي وأحد مؤسسي الحركة، محمد سالم عزّان، والذي كان يمثل المنهج المعتدل، ولم يكن ميالاً لشعار الصرخة أو تلك التأثيرات الدخيلة.

بسبب شعار الصرخة، وسفر بعض الزيود للدراسة في إيران، ومنهم مؤسسو المنتديات، مثل حسين الحوثي ومحمد عزان، دأب خصوم الحركة في تصويرها حركة ليست زيدية، بل اثنى عشرية، في محاولة لتصويرها حركة غريبة ودخيلة على اليمنيين. فيما لا تؤمن الحوثية بأبرز أفكار الاثنى عشرية، مثل الغيبة والعصمة وغيرهما، لكنها استعارت من الاثنى عشرية مظاهر احتفالية غريبة على اليمنيين، مثل الضريح الفخم الذي تم تشييده لحسين الحوثي وإحياء كربلاء بما هو غير معروف في المذهب الزيدي. ولهذا الأمر علاقة بطبيعة الجماعة التي نشأت كرد فعل ضد الوهابية التي فرضت نفسها محتكراً للإسلام، وترفض التنوع المذهبي، وبالتالي، جاءت عملية إحياء المذهب الزيدي، كما يتصور، في محاولةٍ لتأكيد طابعها الشيعي المتمايز. وكانت مرجعيات زيدية تقليدية في أثناء حروب صعده قد اعتبرت الحوثية اثنى عشرية، وليسوا زيوداً، ثم سرعان ما تغير موقفهم بعد 2011، وسقوط علي عبد الله صالح، وأقرّوا بزيدية الحوثي. وهذا موقف تتضح علاقته بمحاباة القوة، غير أنه يعكس حقيقة مهمة، وهي صعوبة تعريف الطبيعة الدينية لجماعة الحوثي.

فهل يمكن افتراض الحوثي جماعة زيدية إحيائية، وامتداداً لمنتدى الشباب المؤمن، كما يفترض بعضهم؟ وفي الواقع، ليس لتلاميذ المنتدى حضور قيادي في الحركة التي تعد إحيائية، ويفترض منهجية فكرية وفقهية للجماعة، وهذا غير موجود، حيث تعتمد الجماعة في تجنيد أنصارها على ملازم خطب مؤسسها، حسين الحوثي، وهي خطب سياسية، تستعير الجملة الدينية، ولكن من دون بُعد فقهي أو فكري، بل بطريقة عاطفية، فيها قدر من السطحية، معتمدة على أفكار مثل معاداة أميركا والغرب والسعودية وحب آل البيت والمظلومية، وهي ملازم أكثر سطحية وبساطة من رسائل التوحيد للإمام محمد عبد الوهاب الذي صار مرجعية الإسلام السلفي.

أي أن حركة الحوثي لا كتب ومرجعيات فكرية لها، ولا يمكن معرفة إلى أي تيار زيدي تنتمي، مثل تيار الهادوية أو الجارودية أو الصالحية. لكن الأهم أن قائد حركة الحوثي ينقض أبسط مبادئ الزيدية في الإمامة. الزيدية تؤمن بفكرة الخروج على الحاكم الظالم والتمرد المسلح، لكن بشرط وجود إمام تتوفر فيه شروط الإمامة، وأبرزها أن يكون عالماً بأمور الدين، حسب المنطق الزيدي. ولم يعلن عبد الملك الحوثي نفسه إماماً، وهو، ببساطة، يفتقد جميع شروط الإمامة، وأبرزها العلم، ويتضح هذا من لغته العربية البسيطة، والتي تكشف بساطة معارفه، أي أن ما تفعله جماعة الحوثي مخالفة صريحة للمذهب الزيدي.

الحركة الحوثية، مثل معظم حركات الإسلام السياسي، العنيفة خصوصاً، تتعامل مع الدين بانتقائية، وكمحاولة لشرعنة عنفها، بقدر لا يخلو من تسطيح معتمدين على استدرار عواطف الناس، وإيجاد حالة خوف من خصوم وأعداء خطيرين، مثل أميركا أو القاعدة، في حالة الحوثي، لكنها تخلو كالعادة من أي مرجعية دينية تقليدية، ومن أي مرجعية سياسية، تحاول الإجابة عن تساؤلات عصرية، متعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، كما كان الدكتور المتوكل. وهذا يطرح تساؤلاً مشروعاً: إلى أين تذهب هذه الحركة، خصوصاً أن الشخصيات المعتدلة التي قد تشكل جسراً بينها وبين الآخرين تتساقط، واحداً تلو الآخر، وتخلو الساحة من كل الشخصيات التي كان في وسعها فرملة جموح جماعة الحوثي وعنفها.

 من صحيفة العربي الجديد: http://www.alaraby.co.uk/opinion/8310b280-1feb-43dc-a3ba-44e61c166d33

 

عن وطن بلا جيش

i-b-20121008-114224

من أهم المُنجزات الوطنية في أي بلد، وأكثر مؤسسة محَط الفخر والاعتزاز وتحظى دائماً باحترام الشّعوب هي مؤسسة “الجيش”. عندما تختلف القوى السياسية بمشاربها، تكون مؤسسة الجيش الوطني حلقة الوصل بل والمرجعية للجميع. للجيش رمزيّة خاصة عند الشعوب بخلاف الأمن والداخلية. فالثانية قريبة منهم وكثيرة الاحتكاك بهم، أضف إلى ذلك الانتهاكات التي تقوم بها قوات الأمن في حق المواطنين. أما الجيش فهو مُسخر لحماية الوطن من الأخطار الخارجية، ونادراً ما ينزل إلى الشارع، الأمر الذي أكسبه هيبةَ واحترام الجميع بلا استثناء.

ثمّة استثناءات تجعل من الجيش محل مقت الشعوب، وتنسفُ تلك الصورة المُشرقة والرّمزية التي يحتفظ بها. لعل إقحام الجيش في السياسة من أهم تلك الأسباب. دخول الجيش في السياسة يجعله في خط التماس مع الشعب مُباشرةً، أضف إلى ذلك دخوله في حلقة ولاءات ضيّقة لشخوص وأحزاب على السواء.

هناك أكثر من عشرين دولة بلا جيش ومع ذلك فهي آمنة تتمتع كذلك باستقلالية تامة. بعض هذه الدول لا تملك جيوشاً، بينما بعضها يملك كتائب أمنية بسيطة، لكن الجميع يعتمدون على جيوش دول أخرى في حماية بلدانهم خارجياً. لا توجد مشكلة نهائيا هنا، حيث تأخذ السياسة مجراها، وتنفذ الديمقراطية بحذافيرها وبالتالي لا وجود لمراكز قوى تسلطيّة من شأنها تعكير الأجواء السياسية.

الأنظمة الدكتاتورية تبني الجيوش وتربيها على الولاء المطلق، ليس للوطن بالطبع، بل للشخوص. لطالما تغنّى الزعماء العرب بجيوشهم الوطنية، غير أن طفرة الربيع العربي عرّت تلك الادعاءات وأثبتت زيفها. تصدّعت تلك الجيوش بين الولاء للحاكم والقوى العسكرية والقبلية وباتت تلك البلدان تقريباً بلا جيوش.

في اليمن مثلاً، حدث انشقاق كبير في الجيش إبان ثورة 2011 لصالح الثوار. بعد التسوية السياسية التي نصّت في إحدى بنودها على هيكلة الجيش، لم يتم هيكلته بقدر ما غُيرت ولاءاته لصالح فئة معينة.

هيكلة الجيش تعني بالضرورة إضعاف مراكز القوى المُهيمنة عليه، وليس تحويل تلك الهيمكنة لفصيل آخر. كان من المفترض أن يتم دمج الألوية الموالية لمراكز القوى وإذابتها في بوتقة مناطق الجيش. أضف إلى ذلك تفعيل التدوير الوظيفي خصوصاً للقيادات الكبيرة والضبّاط.

في غمضة عين، وبعد كلّ ذلك الهُراء برعايةٍ إقليميةٍ وأممية، اكتشف اليمنيون أنهم بلا جيش. أعني جيش وطني لا يدين إلا للوطن والمواطن. لم تكن تدخّلات الإقليم والمجتمع الدولي نقيّة، بل كان كلاً منهم يبحث عن موطئ قدم ومركز نفوذ مُوالي. التدخّل الخارجي كارثي ومُدمّر على خلاف ما تفائلنا به. هذه الدول تؤدي جيداً في مجتمعاتها، لكنّها تُمارس التمزيق والقُبح -وإن كان بصبغة دولية- في حق الدول المتخلفة.

على حين غفلةٍ من التاريخ، سُلمت العاصمة والمدن الأخرى للمليشيات المسلحة تحت مرأى ومسمع العالم وبتواطؤ بل وتسهيل ممن يُفترض أن نسميه جيش الوطن. خيبات الأمل والصّفعات تتوالى على هذا الشعب المكلوم، حتى الجيش الذي ظنناه آخر المُكتسبات الوطنية تساقط كحبّات العقد. بيعَ جيشُنا في سوق النخاسة، بيع للمليشيات وأُهينت بززهم العسكرية ذات الرمزية التاريخية. قصقصة ريشات قوى سابقة كانت مهيمنة على الجيش جاءت لتقوي مراكز نفوذ أخرى تدين للفوضى وتقويض الدولة أو بقايا منها.

تساقطت الألوية العسكرية خلال ساعات دونما مواجهات وسُلمت الأسلحة للمليشيا. فبدلاً من تنفيذ الاستحقاقات السياسية لمؤتمر الحوار الذي استمر قرابة العام ونزع أسلحة المليشيات، تم نزع سلاح الدولة لصالح المليشيات وبتنا بلا جيش.

دمر الرئيس هادي ووزير دفاعه جيشنا الوطني وأهانوه أيّما إهانة. دمّروا ولائهم الوطني وجعلوهم كقطعان يأتمرون لمراكز القوى الطائفية.

همسة: يبيع الجُندي شرفهُ العسكري عندما يتخلّى عن واجبه الوطني في حماية الوطن والشعب؛ بينما يبيع المواطن شرفهُ المدني عندما يحمل السلاح ويسمح لنفسه بالتحوّل إلى مليشيا.

من أهم المُنجزات الوطنية في أي بلد، وأكثر مؤسسة محَط الفخر والاعتزاز وتحظى دائماً باحترام الشّعوب هي مؤسسة “الجيش”. عندما تختلف القوى السياسية بمشاربها، تكون مؤسسة الجيش الوطني حلقة الوصل بل والمرجعية للجميع. للجيش رمزيّة خاصة عند الشعوب بخلاف الأمن والداخلية. فالثانية قريبة منهم وكثيرة الاحتكاك بهم، أضف إلى ذلك الانتهاكات التي تقوم بها قوات الأمن في حق المواطنين. أما الجيش فهو مُسخر لحماية الوطن من الأخطار الخارجية، ونادراً ما ينزل إلى الشارع، الأمر الذي أكسبه هيبةَ واحترام الجميع بلا استثناء.

ثمّة استثناءات تجعل من الجيش محل مقت الشعوب، وتنسفُ تلك الصورة المُشرقة والرّمزية التي يحتفظ بها. لعل إقحام الجيش في السياسة من أهم تلك الأسباب. دخول الجيش في السياسة يجعله في خط التماس مع الشعب مُباشرةً، أضف إلى ذلك دخوله في حلقة ولاءات ضيّقة لشخوص وأحزاب على السواء.

هناك أكثر من عشرين دولة بلا جيش ومع ذلك فهي آمنة تتمتع كذلك باستقلالية تامة. بعض هذه الدول لا تملك جيوشاً، بينما بعضها يملك كتائب أمنية بسيطة، لكن الجميع يعتمدون على جيوش دول أخرى في حماية بلدانهم خارجياً. لا توجد مشكلة نهائيا هنا، حيث تأخذ السياسة مجراها، وتنفذ الديمقراطية بحذافيرها وبالتالي لا وجود لمراكز قوى تسلطيّة من شأنها تعكير الأجواء السياسية.

الأنظمة الدكتاتورية تبني الجيوش وتربيها على الولاء المطلق، ليس للوطن بالطبع، بل للشخوص. لطالما تغنّى الزعماء العرب بجيوشهم الوطنية، غير أن طفرة الربيع العربي عرّت تلك الادعاءات وأثبتت زيفها. تصدّعت تلك الجيوش بين الولاء للحاكم والقوى العسكرية والقبلية وباتت تلك البلدان تقريباً بلا جيوش.

في اليمن مثلاً، حدث انشقاق كبير في الجيش إبان ثورة 2011 لصالح الثوار. بعد التسوية السياسية التي نصّت في إحدى بنودها على هيكلة الجيش، لم يتم هيكلته بقدر ما غُيرت ولاءاته لصالح فئة معينة.

هيكلة الجيش تعني بالضرورة إضعاف مراكز القوى المُهيمنة عليه، وليس تحويل تلك الهيمكنة لفصيل آخر. كان من المفترض أن يتم دمج الألوية الموالية لمراكز القوى وإذابتها في بوتقة مناطق الجيش. أضف إلى ذلك تفعيل التدوير الوظيفي خصوصاً للقيادات الكبيرة والضبّاط.

في غمضة عين، وبعد كلّ ذلك الهُراء برعايةٍ إقليميةٍ وأممية، اكتشف اليمنيون أنهم بلا جيش. أعني جيش وطني لا يدين إلا للوطن والمواطن. لم تكن تدخّلات الإقليم والمجتمع الدولي نقيّة، بل كان كلاً منهم يبحث عن موطئ قدم ومركز نفوذ مُوالي. التدخّل الخارجي كارثي ومُدمّر على خلاف ما تفائلنا به. هذه الدول تؤدي جيداً في مجتمعاتها، لكنّها تُمارس التمزيق والقُبح -وإن كان بصبغة دولية- في حق الدول المتخلفة.

على حين غفلةٍ من التاريخ، سُلمت العاصمة والمدن الأخرى للمليشيات المسلحة تحت مرأى ومسمع العالم وبتواطؤ بل وتسهيل ممن يُفترض أن نسميه جيش الوطن. خيبات الأمل والصّفعات تتوالى على هذا الشعب المكلوم، حتى الجيش الذي ظنناه آخر المُكتسبات الوطنية تساقط كحبّات العقد. بيعَ جيشُنا في سوق النخاسة، بيع للمليشيات وأُهينت بززهم العسكرية ذات الرمزية التاريخية. قصقصة ريشات قوى سابقة كانت مهيمنة على الجيش جاءت لتقوي مراكز نفوذ أخرى تدين للفوضى وتقويض الدولة أو بقايا منها.

تساقطت الألوية العسكرية خلال ساعات دونما مواجهات وسُلمت الأسلحة للمليشيا. فبدلاً من تنفيذ الاستحقاقات السياسية لمؤتمر الحوار الذي استمر قرابة العام ونزع أسلحة المليشيات، تم نزع سلاح الدولة لصالح المليشيات وبتنا بلا جيش.

دمر الرئيس هادي ووزير دفاعه جيشنا الوطني وأهانوه أيّما إهانة. دمّروا ولائهم الوطني وجعلوهم كقطعان يأتمرون لمراكز القوى الطائفية.

همسة: يبيع الجُندي شرفهُ العسكري عندما يتخلّى عن واجبه الوطني في حماية الوطن والشعب؛ بينما يبيع المواطن شرفهُ المدني عندما يحمل السلاح ويسمح لنفسه بالتحوّل إلى مليشيا.

ليلة سقوط الجمهورية ـ 2 ـ

من جديد، وفي حلقته الثانية من “ليلة سقوط الجمهورية” يُطلّ د. مروان الغفوري لسرد حقائق كانت غامضة عن سقوط العاصمة صنعاء في أيدي المليشيا، وعن تآمر الرئيس وغير ذلك..

10252148_10152436453344047_287175283721073301_n

د. مروان الغفوري

 

لم يكن الأمر بحاجة إلى بطل ليكتشف أن الحوثي خطر على الجمهورية، وأن الجمهورية هي المنجز الإنساني الأكثر أهمية منذ الثورة الفرنسية 1789. في القرون الثلاثة الماضية كانت الجمهورية، عالميّاً، تتوعَك، تضطرب، تختلس ملامح الملكيّة أو تنمو إلى إمبراطورية. بقيت للجمهورية ميزتها التاريخية: القدرة على تصحيح ذاتها “ألمانيا مثالاً”. أما الأصوات التي تسخر من القول إن الجمهورية في اليمن انهارت وصعد نظامٌ جديد بطرياركي، أحادي، كنَسي يملك فيه فردٌ واحدٌ خيوط كل الأشياء، ولا يمكن تغييره فهو يملك امتيازاً سماوياً، تجري هذه الأصوات خارج الواقعية الحضارية وتبدو غير واعية بالوضعية العالمية المعاصرة ومعنى أن يكون المرء حُرّاً، كلّي الاختيار، كُلّي الإرادة. إذ لا يمكن أن تعالج الجمهورية بصب مزيج من الكنائس والبارونات على عاصمتها! بصرف النظر عن درجة اعتلالها. ففي اللحظة الأكثر قلقاً واهتزازاً في تاريخ اليمن احتاج اليمنيّون إلى حلول تنبع من المستقبل فإذا بالماضي يتدفق عليهم من الكهوف والجبال، من الكتب الصفراء، ومناحات التاريخ.

ها قد أصبح عبد الملك الحوثي يملك كل شيء، لا تدركه الأبصار وهو يدركها، ويقدر على فعل حتى الأشياء التي لم يكن يطمح إليها لأنها كانت إلى ما قبل أيام مستحيلة عليه. لقد استطاع الحوثي أن يكتشف المخبأ الذي لجأ إليه القشيبي، وقتله. كما اقترب من الجنرال علي محسن عبر رجال الأخير وكاد أن يقتله. أما طه الظفري، نجل واحدة من أكثر الأسر الهاشمية إيماناً بالاختيار الإلهي للحوثي، فقد كان مديراً لوزارة الدفاع ليلة سقوط صنعاء، وكان الشخص الذي بحوزته تلفونات الوزير، وحقيبته. كانت اليمن كتاباً مفتوحاً، وكان الحوثي يكتب نصّ الولاية على طريقته. وخلال ساعات صاح عبد الملك على طريقة بن غوريون: حدودنا حيثُ تقف دباباتنا. أما الرواية التي قدمها محمد عبد السلام، الناطق الرسمي للحوثية، إلى قناة الجزيرة فقد تحدثت عن مستوى عالٍ من التنسيق بين الميليشيات التي أسقطت صنعاء وبين الدولة. ولأنه من غير الممكن عمليّاً الحديث عن دولة في اليمن فإن التنسيق جرى بين الميليشيا من جهة والرئاسة والجيش من جهة أخرى. لم تكُن رواية عبد السلام احتيالاً سياسياً، فبعد 21 سبتمبر لم يعُد الرجل مضطراً لاختلاق مثل هذه القصّة.

فقبل السقوط بأياماجتمع هادي بكبار جنرالات الجيش وأبلغهم أنه يريد خطة عسكرية للمواجهة. كان اللواء الجائفي، قائد الحرس الجمهوري، يجلس في مواجهته في حين يتوزع الآخرون على جانبيه. بينما هادي يعبث بكشف من ثلاث صفحات “إي فور” سأله الجائفي بسخرية “الآن تطلب منّا إعداد خطة مواجهة وهم على أبواب صنعاء؟” فرد عليه هادي ببرود: إذا كنت غير قادر على المواجهة فما عليك سوى أن تستقيل. فقد الجائفي هدوءه المعتاد وقال لهادي بصورة مباشرة: اسمع يا فخامة الرئيس، احمِ ظهورنا من الشرطة العسكرية والأمن المركزي واترك الأمر علينا. مرّت لحظات صمت قطعها هادي وهو يلوّح بالأوراق التي بيده “هذا كشف بالأفراد والضباط الخونة الذين سلّموا كل معلومات الجيش إلى الحوثيين”. كان كشفاً رهيباً يعادل حجم كتيبة من الجيش، قال هادي إنهم جواسيس للحوثي. استلم وزير الدفاع الكشف المشار إليه، وأعطاه إلى طه الظفري. وطه الظفري هذا لم يكن سوى الشباك الذي يطل من خلاله عبد الملك الحوثي على الجيش. كانت الحركة مقصودة من قبل هادي. ففي ذلك الاجتماع جلب شخصيات لا علاقة لها بالنشاط العسكري وكان يهدف إلى إيهام الجميع بأنه عازم على حماية صنعاء. 
الخطة التي أعدتها “هيئة عمليات القوّات المسلّحة” للدفاع عن صنعاء سرّبت إلى الحوثيين. وبحسب مصدر رفيع في الجيش فقد كانت تحركّات الحوثيين كلها معتمدة على خطة الدفاع التي أعدتها الهيئة. “دخلوا صنعاء وهم يعرفون كيف يتحركون ومن أين يهجمون، كانت الخارطة كلهم معهم، ولم يكن هناك جيش” أضاف بلكنة بائسة. وعندما سألته عن موقف وزير الدفاع قال إنه أصدر أوامره إلى كل الجيش بعد التدخّل. وحتى تلك الخطة التي سرّبت للحوثي عمل وزير الدفاع على تجميدها. تواصلتُ مع مصدر في اللجنة الأمنية العُليا فأخبرني أن وزير الدفاع في الاجتماعات الأخيرة للجنة، بينما كان الحوثيون يخترقون شمال العاصمة، كان يقول إن الله سيفرجها. ثم ينهي الاجتماع ويغادر بصحبة طه الظفري، الرجل الذي سيذكره التاريخ باعتباره كلمة السر الكُبرى في انهيار الجمهورية.

في العمليات التي قامت بها جماعة الحوثي في عمران، ثم صنعاء كانت تصرّ على أن تتسلم الشرطة العسكرية المعسكرات والمنشآت. والشرطة العسكرية هي مؤسسة تتبع وزارة الدفاع ويقودها اللواء الركن عوض بن فريد، وهو أحد العسكريين الذين يعتمد عليهم الحوثي في عملياته، وفي الوقت نفسه تربطه بكبار راديكاليي الحراك الجنوبي علاقات صلبة. كان الجائفي، قائد الحرس الجمهوري، مدركاً للفجوة الأمنية الخطرة التي تشكلها “الشرطة العسكرية”. فهو، كعسكري رفيع، يعلم الطريقة التي ساهمت من خلالها الشرطة العسكرية في إنهاء وجود اللواء 310 في عمران. فقد كانت المفاوضات في صنعاء، آنئذٍ، على أن يخرج جنود وضباط اللواء 310 بسلاحهم الشخصي، وتتسلم الشرطة العسكرية اللواء بكل عتاده. ما إن بقي بضعة عشرات في المعسكر حتى انسحبت الشرطة العسكرية بصورة مفاجئة ودخل الحوثيون اللواء من كل بواباته. في تلك الأثناء، وهذا الجزء الأكثر تراجيديا في سيرة سقوط اللواء 310، كان وزير الدفاع في الإمارات، وكان قائد اللواء القشيبي في مكان آمن داخل اللواء، غرفة تحت مبنى الاتصالات. هاتف القشيبي رئيس هيئة الأركان اللواء الأشول تمام الساعة السادسة مساء وصاح به “هل هذا هو الاتفاق، الحوثيون يقتحمون اللواء ويقتلون من بقي من الأفراد في العنابر”. سأله الأشوال عنن مكانه فقال إنه في مكان آمن. استمرت عملية البحث عن القشيبي قرابة الساعتين، ووزارة الدفاع تغط في نوم عميق. الطيران الذي غادر صنعاء لإنقاذ اللواء جاءته أوامر من الجوية، بحسب رواية الأشول، بالعودة. وفي تمام الثامنة والنصف هاتف رئيس الأركان مرّة أخرى القشيبي ليسأله عن مكانه، وينصحه بالتواصل مع قائد الشرطة العسكرية في عمران. همس القشيبي على الهاتف “أنا على بعد أمتار من الشرطة العسكرية، ولا أستطيع أن أتحدث إليهم لأن الحوثيين منتشرون في كل مكان”. طارت جملة “على بعد أمتار” في السماء. المصادر الأمنية الرفيعة التي تحدثتُ إليها تؤيد الفكرة التي تقول إن الأشول بادر بنقل المعلومة إلى وزير الدفاع، وكان على الهاتف على مدار الدقيقة، والأخير بدوره نقلها إلى الحوثيين”. مرّ وقت قصير قبل أن يعثروا على المكان الآمن، وهناك وجدوا القشيبي، وصلبوه بطريقتهم. كانت آخر عبارة سمعها القشيبي في حياته، بحسب الرواية الأكثر صلابة، سمعها القشيبي هي “هل تعرف جرف سلمان”؟ أما الشرطة العسكرية فدخلت تتجول في اللواء، وتقلب جثث القتلى، وتتبادل السلام مع ميليشيا الحوثي. بدا كأن جنود اللواء الذين قتلهم الحوثيون ينتمون إلى عالم آخر، أو أنهم غير مرئيين.

تجاهلت وزراة الدفاع الأمر بعد ذلك كلّياً، وذهب هادي يضلل الناس، بمن فيهم نفسه. وأكثر من ذلك حاول أن يمنع الناس من أن تتذكر حقيقة أن القشيبي سبق وقدم استقالته إلى هادي أكثر من مرّة وكان الأخير يرفضها قائلاً “لن يتصرف الحوثي باليمن كما يشاء، أنا الرئيس”. وكان يعدّ لنحره، إذ ذهب بعد ذلك يقول للسفراء إن القشيبي كان قائداً متمرّداً. أما الوزراء الثلاثة الذين اجتمعوا ليدوّنوا خطاباً رسميّاً يدينُ اقتحام المعسكر وقتل قائده فقد فوجئوا بوزير الدفاع يقف على رؤوسهم ويقول بصوت آلي خشن “خففوا صيغة البيان، لا داعي لأي تصعيد، وليس هناك ما يستحق الإثارة”.

مرّة أخرى..
بعد عشرات السنين سيحتفظ الرجلان بمكانيهما: عبد الملك الحوثي ملكاً، وآمراً، وصالح هبْرَة موظفاً مأموراً. وحتى فيما لو حدثت ظواهر طبيعية مدمّرة، ومات نصف البشر أو نجوا من الموت لن تتغير مواقع الرجلين: الملك والمأمور. وليس لذلك من تفسير سوى أن الله يحب عبد الملك، ولا يحب هبرة. غير أن الأمر الأكثر جللاً في هذا المشهد هو أن هبرة لن يراجع إلهه قط في هذا الشأن. في السرّ ستنمو طبقة جديدة من المؤمنين تعاتب الإله: لماذا تحبّ عبد الملك أكثر منّا. وعندما يعثر مسلحو عبد الملك على هذه الفئة المؤمنة سينتهكون حياتها بوحشية، وسيقال لهم “كانت تلك هي إجابة الإله، فحذاري من مساءلته مرّة أخرى”. هذه ليست مقطوعة درامية، فقبل أيام عاد أحمد عوض بن مبارك إلى القاهرة حزيناً ومحنيّاً. التقى الرفاق الجنوبيّين وأطلعهم على المعلومة التي دفنها بعيداً عن أعينهم وآن أن يطلعهم عليها بعد أن اختلس الحوثي مجده في اللحظات الأخيرة.

طبقا للرواية الأخيرة لبن مُبارك ففي اللقاء الذي جمعه بالحوثي في صعده ألمح بن مبارك إلى ما أسماها “الإرادة الجنوبية” ومرّ على فكرة استعادة الدولة. ويبدو أنه كان ينقل تلك الكلمات كرسائل هادوية لمساومة الحوثي. لم يكن هادي يضغط على الحوثي أو يهدده، كان فقط يساومه، وهُنا يكمن لغز سقوط الجمهورية إلى حد بعيد. يقول بن مبارك إن الحوثي اعتدل في جلسته وخاطبه بصورة مباشرة مشيراً بسبابته تجاه صدر بن مبارك. قال الحوثي إن أمر الشمال محسوم، وأنه الشخص الوحيد المخوّل بالحديث عن المصير السياسي للشمال. أما الجنوب فإن مسألة انفصاله “أبعد من عين الشمس”، وأنه على أهبة الاستعداد لخوض حرب في الأراضي الجنوبيّة حتى آخر مجنّد يملكه، وآخر طلقة مدفعيّة. حدث ذلك قبل سقوط صنعاء بساعات. نقل بن مبارك الرسالة إلى وزير الدفاع وهادي، وبدا كأن الرجلين لم يسمعا ما قاله فلم يكونا مشغولين بأمر الجنوب، ولا بأمر الشمال. بدلاً عن ذلك فقد اتخذ هادي ووزيره طريقاً آخر. ففي تمام الساعة التاسعة مساء، 20 سبتمبر 2014، هاتف وزير الدفاع السياسي المعروف صلاح باتيس “إصلاح، حضرموت” قائلاً: أنا الآن في القيادة العامة، كي تتأكدوا أننا اتخذنا قراراً بالمواجهة العسكرية، أبلغ أصحابك بذلك وأخبرهم بأن عليهم أن يصمدوا في أماكنهم. غير إن الإصلاح كان قد خسرَ كثيراً، وبات أمر انسحابه مجرّد مسألة إجراءات. بدا لهُم أن هناك مذبحاً كبيراً وأن ثمّة من قرر نحرهم عليه قرباناً. أما الحوثيون فلم يجدوا مانعاً من أن ينحروا أي يمنيّ أياً كانت صفته، فلديهم ما يكفي من الذرائع. فهم يقتلون اليمنيين كأنهم لا يعرفونهم. يتعاملون مع اليمني، منذ مئات السنين، على طريقة الظواهر الاستعمارية الإحلالية. فقبل مئات السنين سئل الإمام عبد الله بن حمزة، من الأئمة الذين حكموا اليمن، عن سبب نحره لليمنيين فرد غاضباً “قتل جدّي الإمام علي ثلاثين ألفاً في نهار واحد، كانوا كلهم من المسلمين، ومن قتلاه من حضر بدر المسلمين فما بالكم بهؤلاء الأوباش”. كان يقصد بالأوباش الشعب اليمني.

في نهار اليوم 20 سبتمبر انطلقت المدفعية من فرق الجيش المرابط في كل من عطّان، ونقُم مستهدفة مقرّ الفرقة الأولى مدرع. كان وزير الدفاع يصرّ على حسم أمر الفرقة بسرعة بعد صمودها مسنودة بالتشكيلات المسلّحة التي قدمها الإصلاح والقبائل والمتطوّعون. وكان هادي قد أعطى موافقة على تلك الفكرة قائلاً إنه يريد أن ينتهي من ذلك الكابوس إلى الأبد. في تلك الأثناء كان أحد وزراء حكومة باسندوه في زيارة قصيرة للسفير الأميركي في صنعاء. جاءه اتصال مفاجئ من شخصية مرموقة أخبرته أن الجيش يهاجم الفرقة الأولى مدرّع من أكثر من جهة، وأن هناك حالة من الذهول والحيرة والشلل. نقل الوزير هذا الخبر إلى السفير الأميركي فهاتف الأخير الرئيس هادي مباشرة، وكان أول سؤالٍ طرحه عليه ـ طبقاً لرواية الوزير ـ هو: هل فرق الجيش المرابطة في عطّان ونقُم لا تزال تحت قيادتك أمّ أنها تمرّدت؟ أجاب هادي “لا تزال تحت قيادتي ولا يوجد أي تمرّد”. سأله السفير الأميركي: لماذا تقصف الفرقة المدرعة إذاً؟ ارتبك هادي، طبقاً لرواية السفير الأميركي، وقال إنه لا يعرف، وأنه سيسأل من يعرف! فيما يخص هذه الحادثة، إطلاق النار على الفرقة المدرّعة، بدت المصادر العسكرية في الفرقة المدرّعة مترددة عندما سألتها وأعطتني إجابات غير واضحة، مفضّلة فيما يبدو عدم تأكيد أو نفي الحادثة بشكل نهائي لأسباب غير مفهومة.

نجا الجنرال من موت محقق. كان العقيد خالد العندولي مقرّباً من الجنرال علي محسن. في الساعات الحرجة استطاعت جماعة الحوثي أن تخترق تحصينات الجنرال وجداره الناري عبر الضابط المقرّب منه “العندولي”. في تقدير القيادات العسكرية التي سردت لي القصة فإن العندولي عندما رأى كل القادة، بمن فيهم الرئيس، يبيعون الدولة والجيش والعاصمة قرر أن يشترك في العملية ووشى بقائده. لا يزال مصير الرجل مجهولاً وفي الغالب، بحسب أكثر من رواية عسكرية، فقد اتجه إلى صعدة وقدم ولاءه لقيادة الميلشيات هناك. قائد عسكري آخر فرّ أيضاً في تلك الساعات. فقد كان قائد هيئة عمليات القوات المسلحة من أكثر العسكريين حماساً لتنفيذ خطة الدفاع عن صنعاء. وعندما وقف أمامه وزير الدفاع معلناً تجميد كل فعل عسكري وبشكل نهائي، في الوقت نفسه كانت جيوش الحوثي تقتحم صنعاء أدرك الرجل أن قائده الأعلى سيبيعه للميليشيا كما فعل مع كل شيء. فر قائد عمليات القوات المسلّحة من صنعاء، واختفى بعد ذلك.

في كل الأوقات كان هادي ووزير دفاعه يتحركان في مدارات أخرى لا علاقة لها بالشمال ولا بالجنوب. فالرجل الذي فرّ من عدن صبيحة يوم من أيام العام 1986 وهو في وافر شبابه لن يعثر على بطل بداخله وهو يتخطىّ السبعين. المعلومات الدقيقة التي حصلت عليها من مصادر عليا تقول إن المملكة السعودية بعد أن وعدت هادي، عقب سقوط عمران، بثلاثة مليارات دولار منها 700 مليون دولار لشراء ترسانة عسكرية وترميم سرب المقاتلات فإنها ـ المملكة، سرعان ما حوّلت مبلغ 234 مليون دولاراً. من هذا المبلغ دفع هادي ووزير دفاع 96 مليون دولاراً لشراء قطع غيار من روسيا البيضاء، وأخفوا الباقي، أي 138 مليون دولاراً. حدثت هذه السرقة عندما كان الحوثيون يقتحموشملان ويفرضون إيقاعهم على شمال العاصمة. ترك وزير الدفاع أمر الجيش لسكرتيره الإمامي طه الظفري وراح يتدبّر مصادراً جديدة للدخل. إننا بصدد قصة تقول إن قائد الجيش انشغل أثناء سقوط الدولة بالسرقة، وهذا المشهد السينمائي كان على الدوام حكراً على مهمشي الحروب والعبيد وكلاب السكك، تلك التي تختطف لقمة من حقيبة جريح أو تسرق نعلاً من جندي قتيل.

يتذكر هادي جيّداً موقف اللواء الجائفي من حرب عمران، واحتلال صنعاء. الجائفي هو آخر القادة العسكريين الكبار الذين استمروا في المشهد حتى الآن، وهو أمر يزعج هادي كثيراً، وكذلك الميليشيا. يريد هادي نظاماً عسكرياً يتحكم به طه الظفري عبر شبكته الخاصة! في الأيام الماضية اشتكى هادي للسفراء من قائد الحرس الجمهوري قائلاً إنه ضابط متمرد، مستخدماً في وصفه العبارات نفسها التي كان يصف بها القشيبي.

هادي هو الأمثولة الأكثر إدهاشاً، وإثارة للعار والخجل. فعندما عرض عليه رئيس الحكومة باسندوه مد جسور دبلوماسية مع إيران حتى يمكن التعامل مع المأزق الحوثي بشكل أكثر جدّية ومعقولية فإن هادي رفض الفكرة تماماً وراح يشي برئيس حكومته لدى خصوم إيران مرّة أخرى. غير أن هادي عاد مرّة أخرى وطلب التواصل الرسمي مع إيران عبر وسيط “عُمان”. بين الفكرة التي طرحها باسندوة والرغبة التي أبداها هادي للاتصال بإيران سجلت الأوراق حادثاً مدويّاً. فقد زار وفد إيراني رفيع، من مسؤولي وزارة الخارجية الإيرانية وآخرون، اليمن فرفض هادي استقبالهم. لم ينس هادي أن يبلغ السعودية أنه رفض استقبالهم، وأن يبلغ الحوثي أنه فعل ذلك تمويهاً! طلب الوفد اللقاء برئيس الوزراء باسندوه فرحّب بالأمر. وجد باسندوه نفسه فاقداً للغة، عاجزاً عن الحركة وفضّل الصمت العميق. ذلك أن رئيس الوفد فاجأه بقوله “فيما يخص السفينة جيهان، والمعتقلين الإيرانيين لديكم، للأسف كل اتصالاتنا بالرئاسة اليمنية فشلت، فقد كنّا نحَال على أبناء الرئيس وهؤلاء كانوا يطلبون فدية مالية. في المرة الأخيرة وصلت الفدية زهاء عشرة ملايين دولار، ونحن نرى في هذ الأمر ابتزازاً لا يتسق مع الأعراف الدبلوماسية”..

سقوط عمران أثار شهية هادي ووزير دفاعه. كما كشف خارطة القيادات العسكرية التي قالت لا لسقوط عمران. هُنا اقتضت الخطة المجيء بالحاوري لقيادة المنطقة العسكرية السادسة. التغيّر المهم في الأيام الأخيرة للحاوري أنه كان ضمن مشائخ همدان الذين وقعوا وثيقة صلح وولاء لـ / مع الحوثي. يدين الحاوري بولاء شديد لصالح، وكان أحد الضباط الثلاثة الذين اشتركوا في اغتيال الحمدي بحسب عشرات الروايات المدوّنة. كانت صنعاء على مرمى حجر، وكان الوقت مناسباً لأن يوضع الرجل المناسب في المكان المناسب. المصادر العسكرية الرفيعة التي تحدثت إليها قالت إن اختيار الحاوري جاء بعناية شديدة وبتنسيق مع حوثيي الجيش. بعد جريمة شملان، ورؤية العالم لجثث الجنود في الشوارع اجتمع هادي بهيئة الاصطفاف الوطني وقال لهم على طريقته “للأسف، عيّنت الحاوري لأنه أقنعني أنه ضد صالح. سبق أن سبّ صالح أمامي، لكنه خدعني. الحاوري عميل لصالح، خدعني، والآن لا يمكن تغييره”. بينما كانت جيوش الحوثي تقتحم شمال العاصمة أعاد هادي الجنرال محسن إلى الفرقة الأولى مدرّع تلفونياً. ذهب الرجل إلى الفرقة موعوداً بدعم كبير. لكن الوقت كانت قد تأخر، وكان التلفزيون قد سقط، والتباب المطلّة على جامعة الإيمان والفرقة المدرّعة. حدثت مواجهة قصيرة أدرك معها الجنرال، ومعه الإصلاح بأن الوقت قد تأخر لفعل أي شيء وأنه القشيبي 2، وأن جهة ما ستقبض ثمن جثته. أغلقت كل معسكرات الجيش أبوابها تماماً وتحركت دبابات الحوثي كأنها تعبر في أرض بلا شعب. وبقي في نهار صنعاء، وفي ليلة، 500 فرداً في الزي الرسمي يحرسون اليمن الذي لا يعلم عنهم شيئاً.

وفي ظهيرة يوم 21 سبتمبر غادر محسن الفرقة الأولى مدرّع واتجه إلى السفارة السعودية. وبدوره هاتف السفير السعودي الرئيس هادي قائلاً “الملك يبلغك التحية ويطلب منك حماية حياة علي محسن”. طلب هادي من محسن المجيء إلى دار الرئاسة، فطلب السفير حراسة خاصة. وصلت الحراسة، وفي سيارة مرسيدس ليموزين سوداء اتجه محسن من مقر السفارة إلى دار الرئاسة. بات محسن نهاره كاملاً مع هادي في دار الرئاسة في وجود بعض اللاجئين من السياسيين والإعلاميين. دار بين الرجلين حوار طويل، ومعقّد، لو دوّنه اليمنيون فسيكشف الضوء على أسوأ ساعات صنعاء. في المساء طلب هادي طائرة مروحية من القاعدة الجوية في صنعاء، لكنها كانت قد سقطت كلّياً بيد الحوثيين. رفض الحوثيون السماح لأي طائرة عسكرية بالإقلاع دون معرفة “لماذا”. اضطر هادي لطلب طائرة عسكرية من خارج صنعاء، أغلب التقديرات أنها جاءت من تعِز. قامت المروحية بنقل الجنرال علي محسن الأحمر ورفاقه إلى الحديدة. من الحديدة غادر الجنرال عبر مروحية أخرى إلى الأراضي السعودية، إلى جيزان..

يدور الرجلان، هادي ووزير دفاعه، في عالم معقّد من الهمجية والمال واللصوصية والتآمر. فالدبلوماسي الرفيع الذي أخبرني قبل عام أن هادي يقرأ الكتب محاولاً أن يثير إعجابي عاد قبل أيام للاتصال بي، وليخبرني بأن الكُتب التي حدثني عنها قبل عام كانت متعلقة بالجاسوسية والجرائم. وأن هادي بالفعل مهووس بالمؤامرات والدسائس. فعندما تآمر صالح مع الحوثي اتجه هادي لمنافسة صالح على الكنز ذاته. في الأيام الأخيرة قرّر صالح العودة إلى السعودية فرحّبت السعودية بالأمر. وبحسب المعلومات التي لدي فإن السعودية قبلت الصفقة وتسعى لتزويد صالح بمبالغ مالية كافية لملمة شتات النسيج الذي اختطفه الحوثي. في الوقت نفسه أوقفت مبلغ 450 مليون دولاراً كانت جاهزة للتحويل إلى صنعاء، كجزء من التزام سعودي حديث. سئمت السعودية هادي، حتى السعودية. خرج هادي بخطاب ضد الحوثي لينافس صالح في هجاء الأخير، كما نافسه في التحالف معه. غير أن هذا ليس الجزء الأكثر سوء في فخامة السيد الرئيس.

 

 *من صفحة الكاتب على فيسبوك: https://www.facebook.com/alghafory

الحاجة إلى دولةٍ مُستبدة

4708434_max

ليس الاستبداد دائماً ذات طابعٍ سلبي رغم كارثيته، لكن وجوده في أحيانٍ مُعينة محبّب بل ومُحتم. بعد الأحداث التي شهدتها دول الربيع العربي برَزت الحاجة المُلحة لاستبدادٍ عادل لوضع حد لوفرة الحرية الطارئة في تلك البلدان، تلك الجُرعة المُفرطة من الحرية التي لم يألفها الشّعوب تحولَت إلى فوضى عارمة.

الثورة أداة للوصول إلى هدف “الدولة” والقانون وليست الهدف بحد ذاته، وبالتالي استمرار هذه الأداة يقود إلى الدوران في حلقة مُفرغة. وهذا ما حصل بالفعل في هذه البلدان. فقد تحوّلت الثورة إلى حدث يومي كجزءٍ لا يتجزأ من حياة المجتمع إلى أن صارت غوغائية.

الثورة هي الوصول إلى السلطة بطريقة غير شرعية عبر الفوضى. عندما تستمر هذه الفوضى، من المفترض أن يأتي على سُدة الحكم أشخاص كُثر في وقت قياسي وبالتالي يظل الاستقرار مُتزعزع بقدر تزعزُع المتعاقبين على السلطة.

كان من المفترض أن يعقُب الربيع العربي دولٌ مُستبدة. أقول دولة مستبدة وليس سُلطة مُستبدة. فاستبداد الدولة عدالة ومساواه وحزم، أما استبداد السلطة فئوي أو طائفي أو جهوي. استبداد السلطة كارثي ومُمزق للنسيج الاجتماعي. الدولة كيانٌ مستمر، بينما السلطة عبارة عن شخوص انتهازيون يجوّرون مقدرات الدولة لصالح الفرد أو الحزب أو الفئة.

في البلدان التي شهدت احتجاجات ما سمي بالربيع العربي، لم يراد للدولة أن تحضر، ثمة من لم يرقه ذلك. وهذا ما يفسره التخبط والتعثر الذي أصابها، وانهيار أي سلطة تصل إلى سدة الحكم وصعود أخرى. كل المكونات المُتعاقبة على السلطة تستخدم تقريبا ذات النهج الفوضوي الثوري، وهذا ما غيّب الدولة تحديداً. ولا ننسى كذلك البعد الإقليمي والدولي في تأثيره على المشهد بشكل مباشر أو عن طريق دعم فصيلٍ ما للقيام بالمهمة.

إذن لا تزال الثورة هي الوسيلة والغاية في آنٍ معاً، لذا من المفترض أن تستمر الفوضى إلى أجل غير مُسمى، وسيرافقها غيابُ الدولة. للأسف هذه الطريقة الفوضوية باستمراريتها خلّفت جماعة دينية مُتطرفة في اليمن على سبيل المثال وليس الحصر. ويبدو أنها لن تستقر عليها طالما والوسيلة لا تزالُ تعمل، خصوصاً أن هذه السلطة التي أتت على حين غفلةٍ من التاريخ مسكونةٌ بالطائفية وستُعيد الوطن إلى حِقب سحيقة من الظلاميّة والتخلّف.

إبان ثورة فبراير في اليمن والتي أفضت إلى اتفاقٍ لتسليم السلطة عبر المبادرة الخليجية، أتذكّر عندما تمّ تعيين محافظاً لمدينة تعز عقب تسليم السلطة، كان المواطنون باختلاف آرائهم السّياسة تواقين لحضور الدولة. أتذكر المواطنين وهم يصرخون مخاطبين المحافظ الشاب الذي ينتمي لعائلة تجارية مرموقة ومشهودٌ لها بالنزاهة والكفاءة. كان الناس يطالبون، بعد الفوضى التي شهدتها المدينة إبان الثورة، كانوا يطالبون بأن تضرب السلطة المحلية بيدٍ من حديد؛ يطالبون ببسط الأمن ونفوذ الدولة. كما قلنا، استبداد الدولة عادل ومنصف كذلك. دولة قمعية عادلة خير من دولة رخوة وخائرة.

لقد خافت السلطات الجديدة من تقييد الحريات خوفاً على سلطتها من الشارع المتحوّل جذرياً، وتركت وفرة كبيرة من الحرية. تلك الحرية التي جعلت الفوضى تستمر لتصبّ أخيراً في مخاوفها، بل وتسقطها من الحكم.

كان من الأحرى اعتبار الربيع العربي طفرةً خاصة، بل ظاهرةً طارئة نظراً للحالة المُزرية التي وصلت إليها تلك البلدان من جهة، ونظراً للفترة المُؤبدة التي قضاها حكامها الكُهول. كان ينبغي التأسيس، عقب تساقط أولئك العجزة، لدولٍ مُستبدة تنهض بالمواطن والوطن، وتحكم القبضة على الفوضى المُفترضة. عندما توجدُ تلك الدولة المتينة، عندها سيلجأُ المواطنون إلى اختيار من يمثلهم بطرق راقية وشرعية تحت ظلها.