النّزعة الانتقامية لدى الرئيس السابق

منذ أن أزيح عن الحكم عبر المبادرة الخليجية، لم يستطع الرئيس السابق “علي عبدالله صالح” تخيّل نفسه خارج دار الرئاسة. فقد حكم البلاد لأكثر من ثلاثة عقود، وكان يسعى جدياً لتأبيد ولايته والتوريث لابنه من بعده. لكن ثورة الشباب الشعبية أو ما سُمي بـ”الربيع العربي” أطاحت بآماله، ليُسلم بعدها السلطه لنائبه الجنوبي “عبد ربه منصور هادي” وفق مبادرة سُعودية أممية جعلت منه كمسمار جحا في المشهد السياسي.

news1.625401

استغل الرئيس السابق الحصانة التي منحته إياها هذه المبادرة، وعدم تضمّنها قانون عزل سياسي، وراح يلعب من خلف الستار غوايتَه التدميرية المُفضلة. أبقت المبادرة عليه- بقصد أو بدون قصد- كعامل توازن بين ما كان وما سيكون. فلا هي ثورة ناجزة، ولا هي عودة للنظام السابق. باختصار ثمة من يريد لليمن أن تبقى دولة فاشلة وحسب.

مُستعيناً بنزعته التخريبية، واصل الرّجل تدميره لمؤسسات الدولة وبِنيتها التحتية والخدمية، مستغلاً الثروة الطائلة التي استأثر بها من حكم البلد لعقود، ونصف الحكومة- وليدة المبادرة- ومفاصل الدولة المختلفة المُبقى عليها منذ فترة حكمه. منذ تنحّيه القسري، تعاظمَت عمليات تفجير أنابيب النفط والكهرباء، والمفجرون في الغالب أعضاء في الجنة الدائمة لحزبه. ليس هذا وحسب، فقد عطّل كذلك نصف الحكومة التي بحوزة وزرائه. كل هذا لكي تظهرَ الحكومة كفاشلة، وليبدو الوضع أكثر سوءً مما كان عليه في عهده، وليلعن الشعبُ الثورة ويعودوا له معتذرين، ليقود دفة السفينة مُجدداً ويمضي بهم.

يحرصُ الرّئيس السابق على بقائه دائماً خلف الأضواء بالنسبة للعرقلة التي يُمارسها، فقد بدأ دعمه الفعلي للمتمردين الحوثيين مُنذ ما قبل سقوط مدينة عمران. هو يمدهم بالرجال والسلاح، بينما يظهرون هم على الشاشة بتلك القوة. سخّر ألوية الحرس الجمهوري المرابطة هناك والخاضعة لقيادة نجله، سخّرها كقوةٍ ضاربة بأسلحتها النوعية لإسقاط المحافظة المهمة جداً.

تُعد محافظة عمران السياج الأمني للعاصمة وبسقوطها ستُشكّل صنعاء لُقمة طرية لمن يتربّص بها. حتى القبائل المُوالية لحزب صالح كان لها دورٌ مِفصلي في تفكيك القوة العسكرية القبلية المُوالية للثورة والنظام الحالي.

في العاصمة، استخدم صالح ذاتَ الأسلوب، مع اختلافٍ طفيف في الكيفية، حيث ترافق الحصار العسكري مع نزول إلى الشارع، كان لحزب الرئيس السابق النصيب الأكبر من المتظاهرين. جماعة الحوثي ليست بتلك القوة التي ظهرت بها مؤخراً؛ إنه صالح بقناع حوثي مُشوّه.

حالياً، يجري إسقاط المدن تباعاً بذات الأسلوب، لكن مع تدخل جناحه الآخر “القاعدة” لغرض إضفاء الجانب الفوضوي للوضع ليكون هو البطل المخلص. رغم تشكيل حكومة حسب “اتفاق السلم والشراكة”، إلا أنه لا شيء تغير، ولا تنوي الجماعة سحب مليشياتها لأسباب خفية ستتجلى لاحقاً.

مُقابل جنون العظمة والنفسية المريضة المُدمرة للرئيس السابق، ثمة شعبٌ هو الأفقر في المنطقة ومن أفقر شعوب العالم يئنُّ تحت وطأة هذا الكم الهائل من العبث. عبث صالح والمليشيات، والعبث المُضاد للساسة والمُعارضة العقيمة. قبل أسابيع تحدث أحد قياديي حزب صالح عن تحسّره في تضييع فرصة إقامة مجلس عسكري للبلاد في خضم هذه الفوضى التي هي صيعتهم أساساً. ثمةَ علاقة وطيدة بين ما قاله عضو المؤتمر واجتماع القادة العسكريين للحفاظ على الأمن والجيش الذي جرى في صنعاء مطلع الأسبوع. رُبما كان بداية لمجلس عسكري ينتوي صالح إشهاره، بينما يتوارى هو عن المشهد حالياً ليظهر فيما بعد.. من يدري!

طفرة الوطنية

في خضم اللامُبالاة والانتكاسات التي مُني بها الوطن بسبب الأداء الهزيل للنُّخب السياسية وقادة الرأي من جهة، وقيادة الوطن ورموز الجيش من جهة أخرى، في كومة البؤس هذه بحث اليمنيون عن قشةٍ تُخرجهم إلى برّ الوطنية. في علم النفس، يلجأ الشّخص إلى التعويض عما يفتقد إليه فعلا. ما نفتقدُه نحن هو جُرعات من الوطنية؛ وقد وجدناها.

وجدَ المواطن اليمني ضالّته في مُنتخبه الوطني الهزيل هو الآخر بسبب الإهمال والجوع أحياناً. في بطولة الخليج بنسختها الثانية والعشرين المنعقدة في الرياض مؤخراً، وجدت الجالية اليمنية العريقة في الرياض نفسها تملأ المُدرجات بالصراخ والأعلام الوطنية حتى أطلق عليهم الخليجيون “ملح البطولة”.

الجمهور-اليمني موقع كورة

*الصورة من موقع كورة الرياضي

لم يقتصر الأمر على يمنيو الخارج، في الداخل كان الحماس أكبر واتخذت المؤازرة عن بُعد أشكالاً عدة. الافتقاد للانتصارات والأخبار الطيبة دفع بالجماهير لمنح بطائق الحب والوطنية لمُنتخب كرة القدم. حتى التجار في الداخل والخارج تسابقوا إلى منح الهدايا والمبال للاعبين والطاقم.

في الداخل، اكتفى المشجعون بارتداء بزات المنتخب تضامناً معه. تآزرٌ شعبيٌ جميل وطفرة وطنية راقية لو لم يُفسدها بعض السّاسة الذين ظهروا في مواقع التواصل الاجتماعي لابسن زي المنتخب. أما جماهيرُنا في الرياض؛ فمنهم من جهّز الآلاف من الأعلام الوطنية على حسابه الخاص. البعض الآخر تجشّم عناء السفر من مُدن بعيدة لحضور المباريات وإظهار اليمن بتلك الصورة المُشرقة، ودحض الصورة المُشوّها التي يُروجها لها تُجار الحروب والإرهاب.

ليس المُنتخب هو الوحيد الذي حرّك ذلك الكم من المشاعر والعواطف الوطنية. مؤخراً ظهر أحد المتسابقين اليمنيين على شاشة البرنامج الأشهر “عرب أيدول”. يعتمدُ البرنامج في مؤازرة المتسابقين نظام التصويت عبر رسائل “إس إم إس” لجني أرباح طائلة مُستغلين حماسة الجماهير وانتمائاتهم الوطنية.

المُتسابق اليمني “وليد الجيلاني” أثار حفيظة المشاعر لدى الكثيرين؛ الأمر الذي دفع بالمواطنين -المُعسرين حتى- بالتصويت بكميات مهولة. شركات الاتصالات فعلت ذات الشيء وفتحت التصويت المجاني للمتسابق. في الحقيقة، ليس افتقاد المواطن اليمني للشعور بالوطنية وحدها من دفعت به لكل هذا؛ بل الشعور بالخيبات والهزائم المُتلاحقة في بلدهم. شعبٌ يعاني من إسهال عاطفي حاد سهل الإثارة.

حشد نت

*الصورة من موقع حشد نت

للأسف الشديد تستغلّ هذه الطفرة الوطنية القنواة الربحية. ثمة إحصائيات تقولُ إن أكثر من 40 مليون رسالة تصويت حصدتها قناة (mbc) من برنامج عرب أيدول. رُبع دولار هو قيمة الرسالة الواحدة. أي أن قيمة هذه الرسائل تصل إلى 10 مليون دولار. يبدو أن المتسابق اليمني قد حظيَ بنصف التصويت على أقل تقدير أسوةً بالمتسابقين اليمنيين الذين تعدّوا حاجز الـ50% في برامج مُشابهة. بمعنى آخر: صوّت يمنيو الداخل والخارج للمُتسابق وليد الجيلاني بما يُقارب 5 مليون دولار.. أفقر شعب تجرُفهُ الوطنية إلى هذا المآل؛ فيما تقول مصادر حكومية إن رواتب الموظفين الحكوميين للشهرين القادمين غير متوفرة..معقولة؟؟

ثقافة الفساد المُتجذّرة

تخيلوا أمين عام محافظة تعز-محمد الحاج- يُرحب بدخول أي فصيل من شأنه القضاء على الفساد. طبعا يقصد بالفصيل الحوثيين. بصراحة الفساد ينخُر في المحافظة من الفرّاش حتى أرفع مسؤول في المحافظة، بدءاً بالعاهات الموجودة داخل سور المحافظة. لكن ليس الحوثي هو الحل بأية حال من الأحوال.

الفساد

*كاريكاتير للرسام اليمني رشاد السامعي

يمارسُ الحوثيون فساد وسفك دماء وكلّ أنواع الفضائع. يريدون القضاء على الفساد- حد قولهم- ويغتالون بذلك شيء اسمه الدولة. كمن يريد أن يصطاد ذبابة على رأسك، فيضرب رأسك وتطير الذبابة على حد تعبير الكاتب نبيل سبيع.

أعجبني أحد الردود على صورة سمكة في شدق ثعبان كُتبَ عليها تعليق “ثعبان يُنقذ سمكة من الغرق”. في الحقيقة، هكذا أنقذ الحوثي اليمن من الفساد والتهمها إلى بطنه المُمتلئة بالمُخلفات والقاذورات.

مظاهر الفساد في تعز لا حصر لها، والسبب دائماً غياب الدولة وتراخي السلطة المحلية، بل وتورطها في الغالب. فالجهات الأمنية- على سبيل المثال وليس الحصر- مُتورطة في اختلاق المشاكل خصوصاً النزاعات على الأراضي. فتجد الجهات الأمنية تقف طرفاً مع اللصوص وحيتان المال ضد المُضطهدين ومُلاك الأراضي الحقيقيين.

الثورة نيوز

*كاريكاتير من الثورة نيوز

صادفتُ العديد من العجزة وكبار السن يفترشون الأرض أمام ديوان المحافظة يلتمسون إنصافاً وإعادة أراضيهم. مُعظم المتورطين في قضايا الأراضي هم في الغالب إما مسؤولون حكوميون أو أمنيون في المُحافظة أو من خارجها. هنا لا تستطيع السلطة المحلية إنصاف الضحايا؛ لكنها أحياناً تدخل كوسيط بينهم وبين ناهبي الأراضي لإجبارهم على التنازل مُقابل مبالغ زهيدة للأسف.

في تعز، يُمارس الفساد كجزء طبيعي من حياة الجميع. فساد شخصي وفساد حكومي؛ حتى القطاع الخاص لم يسلم. ربما يتجلّى الفساد بصور أكثر وضوحاً في مؤسستي الكهرباء والبلدية. ربما تكون المؤسسات الأخرى بذات القدر من الفساد؛ غير أن احتكاكنا المُباشر مع هاتين المؤسستين يكشفُ الكثير من الفضائع.

إذا حصلت على فرصة بناء منزل في حي شعبي ستعيش جو الفساد لهذين المكتبين الحكوميين. ستدفع لإخراج رُخصة بناء بقدر المبلغ الذي ستصرفه في إعداد قواعد المنزل. ليس هذا وحسب، بل إن الأمر يزداد كلما قررت إكمال البناء أو بناء طابق آخر. وكل هذا طبعاً بلا سندات رسمية.

بعد إكمال المنزل؛ أنت بحاجة لإيصال التيار الكهربائي. يتم بيعك عداد الكهرباء بقيمة أكثر من ضعفين، ولإخراج مهندسي الربط أنت بحاجة لمُرتب شهر لإقناعه بالخروج إلى منزلك.

كل ألوان الفساد موجودة في تعز كباقي المحافظات الأخرى، غير أن التذرع بها لإدخال مليشيات مُسلحة هي الأكثر إفساداً أمر مرفوض من السواد الأعظم من أبناء المُحافظة. ولنا في المُدن التي تخضع للمليشيا دروس وعِبَر.

في العاصمة، استحوذ المسلحون على جميع أملاك حميد الأحمر واللواء علي محسن الأحمر لصالحهم الخاص؛ ختى حساباتهم البنكية. مطعم “كنتاكي” العالمي تم الاستحواذ عليه كذلك وتسريح أكثر من 120 عامل. الآن يجري تشغيلها لصالحهم الخاص، وبعمالة موالية.

بات الفساد ثقافة مُتجذّرة في وسط المُجتمع اليمني. وأي فصيل سياسي أو مليشوي يستأثر بالسلطة يُمارسُ ذات الفساد ولكن بأيدي جديدة. بمعنى آخر، العملية مُجرد تبادُل أدوار، يذهب فصيل ليأتيَ غيره دون أن تتغير قيَم المُعادلة.

تعز.. أيقونة التعايُش!

في تعز المـــرور يقـــوم بعمــله على أكمـل وجــه..
في تعز تنتشر نقاط النجدة على امتداد الشوارع الرئيسية..
في تعز نقــاطُ الجيـش تحـوّط المـدينــة من جميــع مـداخلــها..
في تعز معنا مُحافظ الحاصل وتسعة وكلاء وأمين عام كيف ما كانوا..
في تعز تجري الحياة بشكلها الطبيعي برغم الاغتيالات السياسية المفتعلة..
في تعز تكتض الأســواق بالمارة والمتسـوقين وبالباعـة المتجـولين..

Taizz, in the middle the Cair fortress

في تعز تفوحُ رائحة المشاقر والكاذي من سُطوح المنازل العتيقة، ومن خدود الغواني في الأودية وفي الأسواق الشعبية..
في تعز تكتضّ باصاتُ الفرزات الداخلية بالركاب والمتسوقين وأصحاب المصالح والمعاملات..
في تعز تفيض الحدائق والمتنزهات بالعوائل والمتفسحين..

تعز ليست بحاجة للجان شعبية من فصيل طائفي أثبت فشله السياسي في غير مدن، فيما حظي بسجل حقوقي هو الأسوأ على الإطلاق. تعز ليست بحاجة إلى دخول مليشيات لتُنتج مليشيات مُضادة؛ تعز ليست بحاجة لتدمير أكثر من ما هي عليه.

تعز مدينةُ التنوع والتعايش الفريدة من نوعها. إنها ليست تلك الأرضية الخصبة للتجاذبات، وليست ساحةً للصراع. إنها أرضية للحياة، ساحةٌ للتفاهم والحوار.

ظهور من يطالبون بإحلال لجان شعبية مؤخراً بدلاً من مؤسسات الدولة يمكن القول عنهم “مُرتزقة”. يبحثون عن وظائف لا تُسمن ولا تغني من جوع، مقابل مدينتهم. يبيعونها للتدمير الطائفي مقابل دمجهم في الجيش. كيف يُفكر هؤلاء يا ترى؟ حتى المجلس العسكري الذي شُكّل أوكلت رآستُه للمركز المقدس. وكأن انتمائهم للهاشميين الجُدد من الدرجة الثانية. تفرقة عنصرية تُكرس ثقافة مُندثرة؛ ثقافة السادة والعبيد. بل أن السادة أنفسهم ينقسمون إلى طبقات متفاوتة.

أين كان يختبئ هذا الخبث طيلة هذه السنوات؟ ومالذي جعله يندثر بهذه الطريقة المقرفة فجأة؟

بغض النظر عن رداءة الأداء الحكومي، لكنّها من رَوح الدولة. دولةٌ رخوة خير من مليشيا طائفية وصلت إلى السلطة بواسطة السلاح وترفض أن تكون دولة. الدولة مسئولية، وأي قصور في الأداء يعودُ عليها بالضرورة.

الحوثيون يُريدون أن يكونوا سُلطةً أقوى من الدولة؛ تفعلُ ما تريد ولا تدخل تحت طائلة المُسائلة. تُعطل مؤسسات الدولة لتتهمها بالفشل ومن ثم تستبيحها بطريقة بدائية انتقامية. الذّهنية الانتقامية لا تصنع دولة؛ والمشحونون بفكرة أحقية العيش دون الآخرين لا يصنعون تعايشاً بين أفراد الوطن المُتنوع.

والسؤال الملح بقوة: هل يرضى أبناءُ تعز بتدمير مدينتهم الجميلة مقابل أن يكونوا قفّازاتٍ بيد جماعة لا علاقة لها بالمُقدسات الدينية وترتهنُ على نحوٍ مُريب للخارج؟!

ما وراء استقالة هيجل!

ظهَر أمس الأول الرئيسُ الأمريكي- باراك أوباما- في مؤتمرٍ صحفي مع نائبه “بايدن” ووزير دفاعه المُستقيل “تشاك هيجل” ظهوراً باهتاً. بدى الرجل مرتبكاً وهو يسُوق سيل التبريرات وراء قُبوله استقالة وزير دفاعه بعد تقديمها منذ أيام حدّ قوله.

743

ثمةَ خلافاتٍ تعصف بالبنتاجون الأمريكي، لعل من أهمها الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية والمعروف بـ”داعش” والتعامل مع ملف الشرق الأوسط برمّته. يُعد “هيجل” الجمهوري الوحيد الذي يشغل منصباً كبيرا بحجم البنتاجون في دولة أوباما الديموقراطية. في بداية فترته بوزارة الدفاع قبل عامين، كان هيجل يتصرّف كديمقراطي مثله مثل أي مواطن أمريكي يتفانى في خدمة الوطن في أي مركزٍ كان.

في الآونة الأخيرة، لم يستطع الرّجل التعامل مع السياسة التي يتخذُها أوباما، خصوصاً تلك المُتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط. فقد عمدَت سياستُة بالسماح لتنظيم داعش بالتعاظُم والتنامي في زمن قياسي لتحقيق مكاسب أخرى لا تبدو مفهومة. فبرغم الضّربات التي يوجهها الحلفاء بقيادة أمريكا، إلا أنها لم تحد من تقدم التنظيم وإسقاطه المدن تلو الأخرى بطُرق درامية مفضوحة. أضف إلى ذلك محافظة النظام الأمريكي الحالي على الرئيس بشّار الأسد على نحو غير مُبرّر، وتمديد التفاوض مع إيران بشأن برنامجها النووي؛ وهذا ما لا يناسب الجمهوريين تحديداً. فقد كان الجمهوريون من أوائل المُحرضين على التدخل العسكري في سوريا وإزاحة نظام الأسد. غير أن أوباما استخدمها كورقة ضغط على سوريا لغرض تدمير مخزونها الكيماوي من جهة، وتضييق الخناق على خصمه الدّب الروسي لغرض تقديم تنازلات في ملف أوكرانيا.

تشاك هيجل- أحد الضباط الذين خاضوا غمار حرب فيتنام- يملك خبرة عسكرية ناضجة للتعامل مع الملف السوري وملف داعش كذلك؛ لكنها السياسة المُتخبطة للديمقراطيين كآخر الأوراق المُتبقية لكسب الشارع. فقد مُنيَ أنصار أوباما مؤخراً بهزائم ساحقة أمام خصمهم الجمهوري الذي بدأ يستعيد المؤسسات الحيوية في الدولة من تحت قبضة الديمقراطيين. فبعد الإخفاقات السياسية للديمقراطيين على مدى الدورتين الماضيتين، جاءت الانتخابات الأخيرة في الكونجرس ومجلس الشيوخ والنواب، فضلاً عن فوزهم بالعديد من مناصب الحكام التي كان يتولاها ديمقراطيون.

البنتاجون-ارشيفية

في الحقيقة، تشهدُ سياسة أوباما الخارجية تغيّراً جذرياً، خصوصاً بعد استحقاقه الدورة الرئاسية الثانية. ربما قاده توجّه التصالح مع إيران إلى تغيير تلك السياسات. ففي سوريا بات وجود الأسد عير مؤذٍ بالنسبة له؛ فيما يستخدمُ الطرفان الأمريكي والإيراني الحرب ضد داعش لاستنزاف دول الخليج ومُحاصرة تُركيا باللاجئين من جهة والأخطار من جهة أخرى. في اليمن كذلك، ابتلعَ أوباما لسانه عندما سيطرت مليشيا مُسلحة تُدين لإيران على مؤسسات الدولة، وهذا ما كانت إدارتُه ترفضه من ذي قبل. حتى ملف الحريات في مصر لم يعُد أحداً في إدارة أوباما يتحدثُ عنه، ولا أحد يُدينُ إطلاقاً الانتهاكات التي يقوم بها النظام العسكري في مصر.

بالعودة إلى استقالة هيجل، يقولُ أوباما بشكل مُعلن بأنه استنتج أن أسلوب هيجل لا يتناسب مع المرحلة الحالية، وهي مواجهة تنظيم الدولة، رغم خبرة هيجل العسكرية في فيتنام. لكن وراء الأكمة ما ورائها.

ففي تقريرٍ نشرته “نيويورك تايمز” يقول أن هيجل اختلف مع مجلس الأمن القومي حول اتجاه السياسة الخارجية، خاصة طريقة تعامل أوباما مع الحرب الدائرة في سوريا منذ أعوام، والتي كانت بمثابة الحاضنة لتنظيم الدولة.

ويبين التقرير أن هيجل قد اعترف الأسبوع الماضي أن الولايات المتحدة ومؤسساتها العسكرية تواجه تحدياً أبعد من تهديد داعش.

كلّ هذه المؤشرات دفعت بهيجل للاستقالة من منصبه، خصوصاً أنها أتت بعد نقاشات خلف الأضواء تمت بين الرئيس وهيجل بناءً على طلب الأخير، وغطّت عدداً من القضايا المختلفة المتعلقة بالأمن القومي.

شاهر السروري حكاية عائد إلى الحياة

في حالة ذهولٍ من أقاربه ومُحبيه، عادَ “شاهر عبدالولي السروري” إلى الحياة بعد أربعة عقودٍ من التّغييب القسري. يقولُ ابن شقيقته: “كُنا نظنه ميتاً ولم يكن على البال أن يعود بعد هذه المُدة الطويلة التي توازي عُمر إنسان”.

يُذكر أن أحد الأشخاص نقلَه إلى منزله قادماً به من محافظة الحديدة. ويعاني شاهر حالةً صحيّة مُزرية وبالكاد يستطيع التفوّه بكلمة ولكن بلكنةٍ ثقيلة بالكاد تُفهم. وكان شاهر قد دخل السجن مع العديد من رفاقه في عام 1974 من القرن الماضي؛ وإلى الآن لم يُعرف عنهم شيئاً. نسيَه الجميع، رفاق النضال والساسة، بينما لم تفقد الأمل أمُ أطفاله التي انتظرت عودته طيلة هذه المدة.

10818905_1543446119231564_52270775_n

تخرّج شاهر عبد الولي من الكلية الحربية سنة 1967، وكان أحد أهم القيادات العسكرية التي فكّت الحصار المعروف بـ”حصار السبعين” الذي فرضهُ الملكيون على العاصمة صنعاء مطلع سبعينيات القرن الماضي. وبعد الأحداث السياسية التي شهدتها البلاد، توجّه السروري إلى مدينة عدن- جنوب البلاد- ليمكث هناك حتى تاريخ اختفائه الفُجائي سنة 1974 لأسباب سياسية بحتة ومن ثم ترحيله إلى إحدى الجُزر النائية.

قبل ثلاثة أيام، عادَ شاهر في ظروفٍ غامضة ليُثير ملف المخفيين قسراً ويعيدُه إلى واجهة الأحداث. تقول شقيقة السروري إنه بحالة نفسية وجسدية مُعقّدة، وبصعوبة كبيرة يستطيع النطق بكلمه. وأضافت: “عندما علمت بالأمر أُصبت بالذهول، وأتيت جرياً للتعرف عليه”. قيل له: “هذه شقيقتك!” وعندما سمع باسمي انتفض وحملق في طويلاً لكنه لم يستطع التحدّث إلي.

ليست هذه أول حالة ظهور لمخفي، فقد ظهر “مطهر عبد الرحمن الإرياني” قبل عام بذات الحالة المُزرية. وجدوه في دار مُسنين في الحديدة كذلك وهو مخفي منذ عام 1982، ولم نسمع عن أخباره حتى الآن. قبل عامين، أخبرني زميل عن مقابلته أحد المخفيين في إحدى مصحّات محافظة الحديدة؛ أفرج عنه من المعتقلات السّرية ليُزج به إلى مستشفى المجانين. والقائمة تطول!

ثمة سرٌ وراء إظهار هؤلاء المُغيّبين قسراً مُنذ عقود في هذا التوقيت الحسّاس تحديداً. وهناك علاقة بين الإفراج عنهم وبين الحالة التي وصلوا إليها من الإنهاك والصمت المُريب الذي يُمارسونه بعد ظهورهم. يتخوّف أهالي شاهر السروري من الحديث لوسائل الإعلام، كما يمنعون أي أحد بالتحدث إليه أو حتى إلقاء نظرة. يقول ابن شقيقته إن هذا الغُموض الذي يكتنف عودة خاله وظروف اعتقاله السياسية، كل هذا يجعلُ عائلته قلقون على حياته.

كل هذا الغموض من شأنه تسليط الضّوء مجدداً على قضية المخفيين قسراً. يُذكر أن المئات من مناضلين وضُباط تعرّضوا لعمليات إخفاء قسري وفي معتقلات سرية منذ سبعينيات القرن الماضي، ولم تُعرف أخبارهم إلى الآن؛ إن كانوا أحياءً أو أموات. ويُحمّل أهالي المعتقلين النّظام السابق وشخصياتٍ عسكرية نافذة بالوقوف وراء هذا الملف.

من المفترض أن يُثار هذا الملف من جديد خصوصاً في خضم التّدافع السياسي الذي تشهده البلاد. أضف إلى ذلك ظهور رموز النظام السابق مُجدداً إلى واجهة المشهد السياسي باعتبارهم اللاعبين الرسميين في قضية المخفيين.

شبَح الحرب الأهليّة

نُفذت عملية اغتيال “صادق منصور” القيادي في الإصلاح بأثر رجعي. كانت الخطة تقتضي أن يتم الاغتيال قبل ذلك، أي قبل اغتيال الدكتور المتوكل رحمه الله بأيام. ثمة معلومات مفادها تعرض منصور لمحاولة اغتيال قبل أسابيع نجا منها.

البداية بصادق منصور، والدكتور المتوكل سيكون الهدف الثاني لتشتعل بعدها الحرب. اللعنة! من هذا الطرف الخفي الذي يسعى حثيثا لإشعال فتيل الحرب الطائفية التي نجا منه اليمنيون مراراً؛ وإلى أين كانت البلاد لتصل؟؟؟

الشهيدان

هذان القياديان، رحمة الله عليهما، من أروع ما يكون بين وسطهم الحزبي. الدكتور المتوكل همزة الوصل بين الفرقاء وحلقة السلام اللامتناهية. منصور -قبل مقتله- كان يقود مساعٍ حثيثة للَم شمل الفرقاء في تعز وتقريب وجهات النظر للتوافق على عدم السماح لأي مليشيات مُسلحة بالتواجُد على أرضها.

تغيّرت الموازين المرسومة بفشل مُحاولة اغتيال القيادي الإصلاحي صادق منصور. ومع ذلك استمرّت الخُطة لتحصُد روح الدكتور المتوكّل رحمة ربي تغشى روحه. الدكتور المتوكل، لمن لا يعرفه، شخصية اجتماعية وعاقلة مات وهو يحلُم بالدولة المدنية. سياسي مُخضرم وأستاذ جامعي تتلمذ على يده معظم السياسيين الجُدد والشباب الصاعدين.

كانت أسرة الشهيد المُتوكّل- كما عدناها- ناضجة ومُتعقّلة بل ورفضت استغلال مُصابها استغلالاً سياسياً لمصلحة طرف. عادَ الدور مُجدداً قبل أسبوع تقريباً على القيادي في حزب الإصلاح- صادق منصور. اغتيل رحمه الله بتفجير عبوة ناسفة في كرسي سيارته. ومع ذلك ابتلعها حزب الإصلاح ولم يُسارع بإلقاء التُّهم على أي طرف سياسي مُطالباً الجهات الأمنية بالقيام بواجبها في مُلاحقة الفاعلين. بمعنى آخر، ما أرادهُ الطرف الثالث والذي خطّط بعناية لهذه الاغتيالات السياسية لم يتم؛ ولن يتم. هذا الشعب المسحوق يعرفُ كيف يُقيلُ عثراته، وكيف يُطبّب جراحاته اللامُتناهية مهما كانت عميقة.

كان للخطأ في التوقيت -بعد عناية الله- دور كبير في إفشال الخُطة ما بعد الاغتيالين. في حال لم تفشل عملية الاغتيال الأولى بحق صادق منصور لكان الأمر مُختلف. ومع فشلها كان لا بد للمخططين التخلي عن الخطة نهائياً؛ لكنه الغباء المُركّب. في حال تمت عملية الاغتيال الأولى، سيكتفي حزب الإصلاح بالتنديد ولا أظنه سيُبادر بالاتهام لطرف مُحدد رُغم كونه مُستهدفاً بل وحظيَ مُنتسبوه بعمليات اقتحام للمنازل واعتداءات واسعة. سيصمُتُ الإصلاح بلا شك؛ ومن ثم سيتم تنفيذ الجزء الثاني من المسرحية باغتيال الدكتور المتوكّل. هنا ستكون الكارثة، قاصمة الظهر.

لن يسكُتَ الحوثيون، وسيُبادرون باتهام الإصلاح باعتبار العملية واضحة كانتقام سياسي لمقتل صادق منصور. سيصيحُ أهالي الشهيد المُتوكّل بعدم تمييع القضية، وعدم أحقيّة أحد في التحدّث عنهم. لكن الغضب والهيستيريا التي سيعمدُ لها مُسلحو الحوثي لن يُثنيها أحد كان؛ ولكم أن تُقدروا النتائج المُترتّبة على غضب مليشيا منهجُها السلاح. في النهاية، إنه قضاء الله ولُطفه بهذا البلد المُنهك، والذي لا يحتملُ المزيد من التمزّق. رحمة الله تغشى الشهيدين البطلين؛ ولعناتُه تُطارد القتَلة أينما حلّوا.

يا لطف الله!! إلى أين يراد لهذه البلاد أن تذهب؟؟

معركة النفط!

موقع بكرة نت

في منطقة الشّرق الأوسط- الموبوء بالصراعات- يحتدم سباقُ التسلّح، فيما يخوض أقطابُ الصراع حروباً باردة وأخرى بالنيابة في مناطق عدّة لإثبات الهيمنة على المنطقة. تسعى إيران لامتلاك سلاح نووي وفرض نفسها كقوة إقليمية لا يستهانُ بها. في ذات الوقت تواصل إسقاط دول الشرق الأوسط تحت سيطرة حُلفائها الطائفيين في الغالب لتسحب البساط من تحت الهيمنة السعودية، كُبرى دول الشرق الأوسط.

بالمُقابل وجدت السعودية ذاتها محاطةً بتمدّد إيراني من شتى الاتجاهات، الأمر الذي جعلها تدق ناقوس الخطَر. تعتمدُ السعودية في معركتها بشكلٍ أساسي على اقتصادها الهائل المعتمد بشكل أساسي على النفط. بينما تكمن مشكلة إيران في الانهيار الاقتصادي الذي تعيشه منذ سنوات بسبب العقوبات الاقتصادية التي يفرضها الغرب.

بعد أن شعرت السعودية بالخطر الحقيقي القادم من طهران والذي توّج مؤخراً بسيطرة مليشيا الحوثي الطائفية والموالية لإيران على مقاليد الأمور في اليمن. هذا الخطر دفع بالسعودية لعمل مُضاد يحدّ من توسع طهران المحموم بل لإفشاله على الأرجح.

قامت السعودية مؤخراً بتخفيض سعر النفط العالمي- بصفتها الأكثر إنتاجاً- والذي يبدو بإيعاز من الولايات المتحدة لمآرب أخرى. تلعب الولايات المتحدة أدواراً عدة بين أقطاب الصراع. فيما تُجري مفاوضاتٍ معها بشأن برنامجها النووي، تسعى الولايات المتحدة للضغط على إيران وداعمتها الرئيسية روسيا عبر السعودية. قدمت الولايات المتحدة لإيران تنازلات قيمة لعل من أهمها القضية السورية، محاربة داعش والتغاضي عما يحصل في اليمن لصالحها. كل هذه التنازلات غرضها الحصول على تنازلات من الجانب الإيراني بشأن برنامجها النووي لإرضاء ابنتها المُدللة “إسرائيل”. كل هذا الغموض من شأنه الاتضاح خلال الأيام القادمة التي سيُسدل خلالها الستار على المفاوضات الإيرانية الغربية نهائياً بشأن طموحاتها النووية.

بالعودة إلى خفض سعر النّفط من قبل السعودية، فهذا الأمر يلقى ترحيباً أمريكياً كونه ورقة ضغط على إيران من جهة، وكونه أداة تحطيم قوية لخصمها اللدود الروسي.

ليس بوسع السعودية عمل شيء إزاء الوضع الراهن باستثناء الضغط الاقتصادي. فالأولى قد خسرَت جميع المكونات السياسية في تلك الدول بفضل سياسة التخبّط المتخذة مؤخراً في إطار التحالف السعودي الإماراتي. تقوم سياسة هذا التحالف على ضرب الإسلام السياسي السني باعتباره الخطر الحقيقي على أمراء النفط الخليجيين، محملين الأخير مسؤولية فوضى ما سُمي بـ”الربيع العربي”. هذا الاستعداء المُمنهج للفصائل السّياسية في اليمن – على سبيل المثال- فتح الطريق أمام رموز النظام السابق للعودة إلى المشهد عبر التحالف مع مليشيا الحوثي الطائفية التي تدين لإيران.

على أنقاض هذه الانتكاسة السياسية تتكبّد دول الخليج- بما فيهم السعودية- خسائر اقتصادية في سبيل الضغط على التوسّع الإيراني. فهذه الدول ذات اقتصادات عريقة وتخفيض سعر النفط لا يضر بها بقدر الضّرر الذي يُلحقه بإيران المُعتمدة بموازنتها على بيع النفط بالأسعار الطبيعية وفي ظل العُقوبات الاقتصادية التي تعيشها منذ سنوات. ورغم القدرات الاقتصادية الهائلة لدول الخليج، لم تُخفي بعض دول مجلس التعاون تأثير هذا الإجراء على اقتصادها. فقد قال رئيس الوزراء الكويتي لصحيفة محلية إن انخفاض سع النفط يُقلق الحكومة، غير أنه يجب أن لا يصيبهم بالذعر، منوّهاً إلى أهمية اتخاذ إجراءات تقشّفية لمواجهة الأمر، بحيث لا تصيب محدودي الدخل.

في الحقيقة، تملك إيران مصادر تمويل أخرى مجهولة على ما يبدو. فبالرغم من العقوبات العديدة المفروضة منذ سنوات، تستطيع إيران تزويد حلفائها في العراق ولبنان واليمن بالأسلحة ووفرة كبيرة من الأموال التي يندرج تحتها شراء الولاءات العسكرية والقبلية. كما أسلفت، كل ما يدور اليوم خلف دهاليز الساسة سينكشف نهاية نوفمبر الجاري بانتهاء مُهلة المُفاوضات المزمعة. من المفترض أن تتبدّل الأحداث الجارية على الأرض في اليمن والعراق وسوريا، بما في ذلك مصير الرئيس الأسد. من المفترض أن تختلف طريقة التعامل مع تنظيم “داعش” والذي يُوظف هو الآخر كأداةٍ للضغط في اللعبة الإقليمية.

هذه الحرب الباردة- معركة النفط- من المفترض أن تؤتي أكُلَها بعد اتضاح الرؤية بشأن برنامج إيران النووي. بعدها إما سيتم التعامل بحزم مع التوسع الإيراني، وإما سيتم تسليمها زمام الأمور بشكل رسمي وهذا يعتمد بشكل أساسي على مدى التنازلات التي ستقدمها لنظرائها الغربيين.

*الصورة من موقع بُكرة نت

ولادةُ المَد

في خضم الرّكود الثّوري الذي يعيشهُ الشارع اليمني بعد الأحداث الأخيرة التي شهدتها البلاد، وُلد المدّ من رحم الشارع. “مواطن من أجل دولة”، هذا هو اسم حركة المد.

مد1

جرَت العادة أن تكونَ الدولة من أجل المواطن، لكن عندما توجد هي في البداية. الدولة غائبة، أو بالأحرى اكتشفنا فجأةً أننا بلا دولة. في الحقيقة، لم تكن الدولة موجودةٌ من قبل، لكن هذه الحقيقة بدت جلية بعد تصاعد العنف وارتفاع صوت المليشيات المُسلحة لتسيطر على الطابع العام.

في البداية، لا بد من إيجاد الدولة. من الذي سيأتي بالدولة؟ المواطن، أنا وأنت وهو وهم بالتأكيد. الدولة السّوية تحتظنُ المواطن وتهتمُ لأمره؛ لكن في غيابها وحده المواطن من يستطيع إثباتها في عملية تبادل أدوار.

في ظل الاحتقان الحِزبي والطائفي الذي يدفعُ بالأوضاع حتماً إلى السقوط في فخ الاحتراب الداخلي، كان لا بدّ من عمل مُضاد لهذه الحالة السائدة. الحاجة للتعايُش ونبذ الاحتراب على أساس الفئة والطائفة والجغرافيا هي غاية سامية لهذه الحركة. الاحتراب مُدمر، ولا يوجد فيه طرفٌ منتصر وآخرُ خاسر. الخاسر الوحيد هو الوطن.

بعد الأحداث الأخيرة وفرض واقع جديد، أصيب الشّارع بالركود، وتضائل الفعل الثوري الذي كان أحد المكتسبات الضئيلة لثورة فبراير. الفعل الثوري الاحتجاجي بدأ في 11 فبراير، ودّع فيه الشارعُ اليمني الخوف والاستكانة للقمع والإقصاء. عادت حركة مد لتنشيط الفعل الثوري وكسر حالة الجُمود والذّهول الذي يحاولُ الوضع القائم فرضُه عنوة.

بالمقابل، استياء الأوضاع بعد الثورة وتنامي العنف والمليشيات المسلحة دفعت بالبعض لتحميل الثورة وصول الوضع إلى هذا الحد. بمعنى آخر، الأخطاء الهائلة التي رافقت الفعل الثوري في الميادين، والأداء السياسي للأحزاب القائمة في التعامل مع الوضع أدّت إلى خلق هالة مقت شديدة للثورة.

إذن، لن يخرج الشارع إلا بفكر بديل. الوضع مُزرٍ وأعمال العنف تتنامى، بينما تتساقط المُدن في قبضة المليشيات المُسلحة. “لا تقف صامتاً؛ افعل شيئاً” كانت هذه إحدى شعارات حركة مد. إنها دعوة للخروج السلمي رفضاً للعنف والمليشوية والاحتراب. إنها دعوةٌ للتعايش؛ دعوةٌ للحياة. ” صمتك يغتال أمنك.. أنا وأنت” كُلنا هدفٌ لأعمال العنف.

مد

من تعز بدأ المد، ولن يتوقّف إلا بتوقّف العنف والتجييش للاقتتال الطائفي والفئوي. “مد” حركة احتجاج شعبية سلمية ليست موجّهة ضد أحد؛ هي ضد الاحتراب الأهلي وحسب. سيتوغّل المد إلى كلّ شارع، إلى كل حارة ومنزل للتوعية حول التعايُش والسلام. لا بد من صناعة جيلٍ مدني واعٍ مُتعايش، عليه نُعلّق آمالنا العريضة للنجاة.
حتماً سننجو!!

وجع التشبث

سكب جميل للصحفي اليمني: غمدان اليوسفي يسردُ المعاناة التي يعيشُها اليمنيون.. مقال جميل يستحق القراءة

179531_10151711229931988_1469478046_n

من قال إن على اليمني أن يظل متألما جراء هذا التشبث المر بالحياة!.
من الذي حكم على آماله بالأعمال الشاقة المؤبدة! 
هل على اليمني فقط أن يظل مطاردا في حدود الجيران، وفي الجبال وتحت مخيمات اللجوء.
من الذي أورثنا كل هذا النزوح بين الواقع والروح، بين الأرض والنبض، بين جحيم الرصاص والانتظارات.
كل شيء يتضاءل، إلا مساحة المخيمات.. ومساحة الأمل.
تتمدد المنافي في أرواحنا، وتنكمش الأرض علينا، لتقترب المسافة بين رصاصة وجسد.. بين قبلة خروج وعودة.
انتظاراتنا جاءت بكل شيء، إلا ما انتظرناه، جاء الحالمون بغنيمة، وتوارى الحالمون بوطن يلملم الشتات البشري والروحي..
جاء رواة الدم، واختفى رواة الحلم.
يتمدد صناع المنافي في شرايين أحلامنا، لتذوي الرصاصات فينا، وتحفر قبور انتصارها على حبنا لهذا التراب، غير أنها تدفننا فيه قبل أن نفكر في أن نجعل منه طوبة بناء.
نحاول لملمة الشتات بين مانريده ومايريده البارود، فتشعل أيادي القبح الفتيل ليحرق بعض الذي تبقى من ميراث حكمة وصفنا بها ذات يوم.
أيها القاطنون في مسامات شغفنا بالحياة، دعوا لنا ما تبقى حتى من الهزائم لنربيها على انتظار فتات الحلم بالعودة.. دعوا لنا ما تبقى من الخيبات لنسرح جدائل أمنياتها علها تفتن الأمل ذات يوم ويعود.
أيها المتشبثون بدمنا، دعوا لنا شيئا من الدمع عله يوقظ في أرواحنا نداء الموت في سبيل الحياة.. دعوا لأمهاتنا شيئا من لغة التوسل للسماء بأن يعود هذا الوطن لأهله.. امنحوا أطفالنا حتى حق البكاء على ماض سرقتم حاضره لأنكم لا تحبون مستقبلهم.
أيها المتباكون على أرواحنا، سئمنا لغتكم، وتعفنت صوركم في مدامعنا، لأنكم أبكيتمونا دما، وأذقتمونا طعم الغربة في أوطاننا، وبددتم أمل الكرامة أن تعود لمن يحتملون أنين الوطن في أوطان الغير.
تلعنكم دموع أولئك الذين يبكون في المنافي والمهاجر كلما أهانتهم يد الغريب، تلعنكم أحذية العاطلين في الأزقة، تلعنكم هذه الأرض كلما نطقتم أو صمتتم.. يكفيكم ماشربتكم من عرقنا، وما أسقيتم من دمنا تراب هذه الخرابة..
يكفيكم صبرنا عليكم.
أليس في عيونكم ولو شيئا من الدمع.. ابكوا ولو قليلا لاستعادة بعض إنسانكم الذي نسيتموه في محاجرنا نحن.. وعشتم بلا ألم.
ابكوا علكم تجدون شيئا من الآمنا، علكم تجدون ريح الوطن الذي نفتقده.

المقال من صفحة الكاتب الشخصية على فيسبوك : https://www.facebook.com/alyosifi